أتت زيارة وزير
الخارجية الإيراني، عباس عراقتشي، للسعودية، واللقاءات التي عقدها، لتشكّل تحدياً
جديداً للمسار الذي لطالما سعت "إسرائيل" والولايات المتحدة لتكريسه في
منطقة الخليح، بحيث عملتا على توجيه العداء العربي إلى إيران بدلاً من
"إسرائيل"، وعدّها "تهديداً" للعرب في محاولة لإنهاء الصراع
العربي الإسرائيلي ودفن القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى صراع عربي إيراني، وسنّي
شيعي في المنطقة.
شكّلت هذه الزيارة،
وما سبقها وما تلاها من تصريحات إيجابية بين الطرفين، تحدَياً واضحاً لكل ما تحدث
عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والخرائط التي عرضها في الأمم
المتحدة، والتي أشار فيها إلى استمرار مسار التطبيع مع السعودية، مؤكداً أن هناك
محورين في المنطقة، محوراً يضم "إسرائيل" مع السعودية والدول العربية
الأخرى، التي سلكت طريق السلام مع "إسرائيل"، وهو ما سمّاه نتنياهو
"محور النعمة"، بينما محور المقاومة هو "محور النقمة"، بحسب
تصنيف نتنياهو.
لا شكّ، منذ دخول
الأميركيين للمنطقة بصورة واسعة عبر احتلال العراق عام 2003، في أنه بدأت خطة
تحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع سنّي شيعي وعربي إيراني، عبر التخويف مما
أطلق عليه الملك عبد الله الثاني مصطلح "الهلال الشيعي"، الذي يتشكّل من
إيران والعراق فسوريا ولبنان.
ومع خلق هذا
"القلق الأمني" الجديد، انتقلت منطقة الشرق الأوسط إلى سباق تسلح
وتوترات وتهديدات أمنية، وأدخلتها في "معضلة الأمن"، التي كادت تنذر
بحرب كبرى. - صناعة "معضلة أمن" في الخليج تشير المدرسة الواقعية في
العلاقات الدولية إلى "معضلة الأمن" كونها مشابهة لدائرة حلزونية لا
خلاص منها، بحيث تشعر الدولة بأن أمنها في خطر نسبة إلى الدول الأخرى، فتقوم
بمحاولات زيادة قوتها العسكرية وعقد التحالفات من أجل المحافظة على أمنها، الأمر
الذي يدفع الدول الأخرى في الإقليم إلى القيام بخطوات مماثلة، فتشعر تلك الدولة
بانعدام الأمن مجدداً.
وبما أن الشكّ وعدم
الثقة هما السمتان السائدتان، فهذا يؤدي إلى سباق تسلح وتهديدات متبادلة، وهكذا
دواليك، إلى أن تصل الحالة إلى مرحلة قد تؤدي إلى حرب، على الرغم من أن لا أحد في
البداية كان يريدها.
ويرى الواقعيون أن
حدوث المعضلة الأمنية في نظام إقليمي معيّن يتأتى من عدم الثقة بين الدول والشكّ
فب نيات الأطرف الآخرين، بحيث يشعر صاحب القرار بالخوف من نيات الآخرين، على الرغم
من أنهم قد يعبّرون على نحو أنهم لا يقصدون الضرر أو الهجوم، بل هم فقط يريدون
المحافظة على أمنهم. وهذا بالضبط ما تمّت "صناعته" في الخليج، بحيث تمّ
التركيز على الخطر الإيراني وتعظيمه، وبذلك استفادت شركات السلاح الغربية، وخصوصاً
الأميركية، من تعظيم "التهديد" الإيراني على الدول الخليجية، لدفعها إلى
شراء السلاح بمئات مليارات الدولارات سنوياً، واستفادت "إسرائيل" من ذلك
بتصويرها "حليفاً منطقياً" لدول الخليج في مواجهة "الخطر الإيراني".
وبالنظر إلى خلق
المخاوف الأمنية، نجد أن إيران والدول الخليجية، بعد التدخل العسكري الأميركي في العراق،
كانت أمام حقيقتين: القلق الأمني الإيراني المتأتي من وجود الأميركيين والقواعد
العسكرية عند حدودها في العراق، الأمر الذي جعلها تحاول زيادة قوتها لحماية نفسها،
واستفادة إيران من التطورات المستجدة عبر إسقاط نظام صدام حسين، وحصول المعارضة
العراقية حليفة الإيرانيين على أغلبية واسعة في البرلمان العراقي.
على الرغم من رغبة
جورج بوش في قلب موازين القوى في المنطقة وتصنيفه إيران ضمن "محور
الشر"، الذي هدد دوله بأنها ستكون التالية بعد العراق، فإن إيران استفادت،
عملياً، من التطورات اللاحقة، واستطاعت أن تكسر طوق الاحتواء الذي فرضه الأميركيون
عليها بعد ثورة عام 1979، وهو ما جعل الدول العربية الخليجية تشعر بالقلق من زيادة
القوة الإيرانية، وتسعى لإقامة توازن قوى مجدداً.
اتفاق بكين يخرق
الدائرة الحلزونية: منذ التفاهم السعودي الإيراني في بكين عام 2023، راهن كثيرون
في الغرب و"إسرائيل" على ألّا يعمّر هذا الاتفاق طويلاً، مؤكدين أن
الخلافات بين الدولتين أعمق من أن يرممها اتفاق، وأنه سيبقى حبراً على ورق،
واستمرت المحاولات الأميركية والإسرائيلية لعزل إيران ومنعها من تعزيز علاقاتها
بالدول الخليجية العربية، عبر مشاريع استثمارية طرحتها إدارة الرئيس بايدن، منها
مشروع الممر الاقتصادي من الهند إلى أوروبا، مروراً عبر دول الخليج ومرفأ حيفا.
وكانت أحداث الـ7 من
تشرين الأول/أكتوبر، والتي ادعى بايدن أنها أتت لتعرقل مسار التطبيع الإسرائيلي
السعودي، نافذة لتحسين العلاقات السعودية الإيرانية، وفتحت مساراً تمّ تتويجه
مؤخراً بلقاء الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ووزير الخارجية السعودي، فيصل بن
فرحان، ولقاء ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، ووزير خارجية إيران، عباس
عراقتشي، بحيث تحدث بعض التقارير الصحافية عن أن السعودية ستكون وسيطاً بين الأميركيين
والإيرانيين، وأنها ستسعى لمنع تدهور المنطقة إلى حرب كبرى كما يريد نتنياهو.
إذاً، استطاعت إيران
والدول الخليجية الانفكاك من "المعضلة الأمنية" التي كادت تتسبب بحرب
إقليمية، وانتقلت من مرحلة الاشتباك إلى مرحلة التعاون لتأمين الاستقرار في
المنطقة والتعاون في حلّ الملفات الإقليمية، على نحو يؤدي إلى إجهاض كل ما تمّ
استثماره سابقاً في مشاريع الفتنة التي رعتها وأدارتها "إسرائيل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق