2024/10/31

دور الحاخامات في تغيّر العقيدة القتالية في اسرائيل


تشتد المشاكل داخل "اسرائيل" بشأن تجنيد الحريديم، ويهدد الحزبان الدينيان في الحكومة “شاس” و”يهدوت هتوراه”، بالتصويت ضد الميزانية المالية، إذا لم يتم المضي قدماً في قانون الإعفاء من التجنيد.

لكن، بالتوازي مع هذا الجدال السياسي والقانوني، كان لافتاً تصريح المحلل السياسي للقناة "الـ12" الإسرائيلية، عميت سيجال، الذي قال إن "60% من الجنود القتلى خلال الشهر الجاري في لبنان هم من أتباع تيار الصهيونية الدينية، وهم من مستوطني الضفة الغربية".

وفي تقرير نشرته "سي أن أن: (25 تشرين الأول/أكتوبر 2024) بشأن رفض الجنود الاسرائيليين الالتحاق بالخدمة مجدداً، يقول أحد الذين خدموا عند الحدود مع لبنان "إن الخدمة كانت صعبة للغاية بالنسبة إليه، لأن الجو كان يبدو "عسكرياً دينياً" للغاية، موضحاً بالقول: "شعرت بأن جزءاً كبيراً من الأشخاص، الذين كنت معهم، يدفعهم الجانب الديني إلى القتال في هذه الحرب، وهو الأمر الذي كان غير مريح للغاية بالنسبة إلي". ويتذكر أن أحد رفاقه من الجنود قال له "إن قتل الفلسطينيين في غزة، بمن في ذلك الأطفال، هو واجب ديني يهودي، لأنهم سيصبحون إرهابيين عندما يكبرون".

في السنوات الأولى لتأسيس الكيان، كانت مراكز القوة الرئيسة في البلاد ــ المؤسسة العسكرية والحكومة ــ خاضعة لسيطرة النخبة الصهيونية العلمانية واليسارية في الغالب، والتي أسست "الدولة" في عام 1948. لكن، على مدى العقدين الماضيين ظهر جيل جديد يجمع بين الدين والقومية. وتُظهر الدراسات الأكاديمية أن عدد الضباط الصهاينة المتدينين في "الجيش" شهد زيادة هائلة، كما زاد تأثير الحاخامات الذين أدخلوا مسائل الإيمان والسياسة في ساحة المعركة.

ولفهم التحوّل في "الجيش" الاسرائيلي، لا بد من أن نعرّج على بعض الهياكل التي أقامها والتي دمج فيها المجتمع الإسرائيلي المتدين، وكيف أدّى التحوّل إلى هذه النتائج:

1. مدارس Hesder Yeshivot

هي مؤسسات تعليمية بعد المرحلة الثانوية تابعة للجيش، بحيث يُمضي طلاب المدارس الدينية الصهيونية جزءاً من خدمتهم العسكرية منخرطين في تعلم التوراة وتأدية الخدمة العسكرية. وخلال العقود الأخيرة تم إنشاء شبكة من الأكاديميات العسكرية الدينية الوطنية، وتطورت هذه المدارس لتدريب جيل جديد من القادة العسكريين الذين لا يتخرجون بتدريب عسكري فحسب، بل لديهم أيضاً دافع ديني إلى البحث عن أدوار قتالية داخل الجيش.

2. اليهود المتدينون:

لا يخدم المجتمع المتدين (الحريديم) بشكل عام في "الجيش" بسبب معتقداته الدينية ولرفضه العلمانية. ومع ذلك، هناك وحدات خاصة لأولئك الذين يتطوعون، والتي تحافظ على معايير دينية صارمة. وتشير التقارير إلى أن نسبة 4 % فقط من الحريديم، الذين تم استدعاؤهم مؤخراً، التحق بالخدمة فعلياً.

3. الصهاينة المتدينون

يدمج هؤلاء معتقداتهم الدينية في خدمتهم العسكرية، وغالباً ما ينظرون إلى خدمتهم على أنها واجب وطني وديني معاً. يتباين هؤلاء الصهاينة المتدينون عن المجتمع اليهودي الأرثوذكسي المتطرف في نظرتهم إلى الاندماج في المجتمع والخدمة العسكرية.

تأسست أول مدرسة إعدادية عسكرية في "إسرائيل"، بني دافيد، عام 1988، لتشجيع الصهاينة المتدينين على تولي أدوار في الجيش، في وقت لاحظ الجيش تراجعاً في دوافع المجندين المتدينين. تفتخر المدرسة في أن جميع خريجيها تقريباً يتطوعون للقتال، بحيث يتم تعليمهم أن "الخدمة العسكرية واجب مدني، لكنها أيضاً وصية عظيمة من التوراة".

منذ تأسيسه، افتخر "الجيش" الاسرائيلي في أنه منظمة علمانية للغاية ليس لها أجندة دينية أو سياسية، باستثناء الدفاع عن "الدولة"، لكن الأمر بدأ يتغير في العقود الأخيرة. وعلى الرغم من أن المتدينين المتشددين (الحريديم) يرفضون الخدمة العسكرية، فإن الفصيل الآخر، الذي يُعرف أحيانًا باسم "الهارداليم" أو "المتدينين الوطنيين" أو "الصهاينة المتدينين" والذين يمثلون نحو 13٪ فقط من سكان "إسرائيل"، باتوا يمثلون في عام 2024 نحو 40٪ من طلاب الضباط الذين يدخلون الجيش، بعد أن كانت نسبتهم 2.5% في عام 1990، و26% في عام 2008.

4. الحاخامية العسكرية
خدم الحاخامات فترةً طويلة في "الجيش" الإسرائيلي، لكنهم تعاملوا تاريخياً مع القضايا اللوجستية، مثل التزام قوانين النظام الغذائي اليهودي، وتنظيم خدمات الصلاة، والحفاظ على الالتزام الديني في أثناء الواجبات العسكرية.

بدأ هذا يتغير في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فلقد حصلت الحاخامية العسكرية على دور جديد لربط الجنود بجذورهم اليهودية وغرس روح القتال فيهم، القائمة على الإيمان والتقاليد التي تعود إلى قرون. وهكذا، في عام 2001، أنشأت الحاخامية فرع "الوعي اليهودي"، الذي يقدم إلى الجنود جولات ومحاضرات عن اليهودية ودروساً تدمج معاً التعاليم الدينية مع القيم العسكرية مثل التضحية بالنفس.
عام 2016، أعلن رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي الأسبق، غادي آيزنكوت، أنه سينقل وحدة "الوعي اليهودي" من سلطة الحاخامية العسكرية، ويضعها تحت سلطة مديرية شؤون الموظفين، بعد أن تعرضت لانتقادات من داخل الجيش وخارجه بسبب دفعها أجندة أيديولوجية دينية يمينية، وبعد أن انتقدها الجنود العلمانيون متخوفين من أن يؤدي كثرة التدين في الجيش إلى تساؤل الجنود عمن يجب أن يطيعوا: ضابطهم أم الله.

مؤخراً، برز دور هؤلاء خلال الحروب على غزة ولبنان، بحيث تفيد التقارير بأنهم يضطلعون بدور واسع لتعزيز الروح القتالية للجنود وعدم استسلامهم لأنهم يقاتلون من أجل "التوراة"، لذا من واجبهم التشبث بالأرض وبعدم الرحمة مع العدو. ينتقدهم البعض مؤكدين أنهم السبب في دفع الجنود إلى عدم التمييز بين المدنيين والعسكريين، إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة.
في المحصلة، يبدو أن البعد العقائدي الديني دخل عقيدة "الجيش الاسرائيلي"، وهو ما يمكن أن يفسّر قدرة "إسرائيل" على خوض حرب استنزاف مدة عام، والتأقلم الاسرائيلي مع نسبة الخسائر البشرية العالية. وتشير الدراسات الاسرائيلية الحديثة إلى أنه "لا يوجد مكان آخر في إسرائيل يتجلى فيه النفوذ المتزايد للقوميين الدينيين وامتدادهم بشكل أوضح من داخل المؤسسة العسكرية".
 

2024/10/25

ألمانيا والبحث عن دور في الشرق الأوسط

زارت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك لبنان، وأطلقت تصريحات أقل ما يقال عنها إنها "مشينة" بحق لبنان، في ظل سكوت سياسي لبناني غير مفهوم. ونشرت الخارجية الألمانية على منصة "أكس": "في لبنان، يخشى الناس على أحبائهم كل يوم. وهنا أيضاً، يختبئ إرهابيو حزب الله بشكل غير مسؤول خلف المدنيين ويطلقون الصواريخ على إسرائيل كل يوم. يجب على إسرائيل الدفاع عن نفسها ضد هذه الهجمات."

 

وكانت في وقت سابق، أطلقت وزيرة الخارجية الألمانية تصريحات أمام مجلس النواب الألماني (البوندستاغ) تؤكد أن الألمان يدعمون الإبادة في غزة، وأنهم سيستمرون في تصدير الأسلحة إلى "إسرائيل"، بالرغم من قتل المدنيين، إذ عدّت قتلهم مبرراً في معرض دفاع "إسرائيل" عن نفسها. كذلك أعلن المستشار الألماني أن حكومته ستستمر بتزويد "إسرائيل" بأنواع الأسلحة اللازمة كافة.

 

وكأن التصريحات الألمانية لا تكفي، فقامت ألمانيا (بصفتها عضواً في المحكمة الجنائية الدولية) بمحاولة تقويض قضية تحويل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت إلى المحكمة. ومؤخراً، نشرت المحكمة الجنائية الدولية تعديلاً لمطالعة دولة ألمانيا في ما يُعرف بـ"طلب صديق المحكمة"، تطعن فيه في طلب مذكرات إلقاء القبض على نتنياهو وغالانت والذي تقدم به مدعي عام المحكمة إلى الغرفة التمهيدية.

 

وجاء في المطالعة أن المدعي العام لم يراعِ المادتين 17 و18 من اتفاقية روما التي تعدّ اختصاص المحكمة مكمّلاً للاختصاص الوطني، وارتكزت المطالعة الألمانية إلى أن "إسرائيل" تمتلك جهازاً قضائياً مستقلاً قادراً على التحقيق في الجرائم المرتكبة، وأنها لم تُعطَ الفرصة لذلك، وفقاً لمبدأ "التكامل الإيجابي" المعمول به في نظام المحكمة الأساسي.

 

- السياسة الألمانية في الشرق الأوسط

في عام 1953، سلّط المستشار كونراد أديناور الضوء على "الالتزام الأخلاقي" لألمانيا ببناء علاقات قوية مع "إسرائيل"، ما أدى إلى برنامج سري لنقل الأسلحة واتفاقية تعويضات مالية كبيرة. في عام 1956، واجهت ألمانيا أزمة دبلوماسية حادة مع العالم العربي بسبب الكشف عن إمدادات الأسلحة السرية تلك والمساعدة الألمانية لـ"إسرائيل" خلال العدوان الثلاثي على مصر.

 

في عهد المستشار فيلهلم براندت، بدأت ألمانيا ما سمّته "سياسة التوازن" في الشرق الأوسط، وفي الصراع العربي- الإسرائيلي، وذلك لموازنة مصالحها الاقتصادية والأمنية المتنامية في الشرق الأوسط مع علاقاتها الخاصة مع "إسرائيل". ركزت هذه السياسة على تقديم الدعم المالي للشركاء الإقليميين المهمين وتبني موقف أكثر حيادية تجاه الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. ومع ذلك، واجهت سياسة "التوازن" أو Ausgewogenheit  أولويات متضاربة، فبالرغم من بدء خطاب أكثر ليونة وتقديم المساعدات المالية للفلسطينيين، ظلت ألمانيا شريكاً موثوقاً به ومؤيداً مخلصاً لـ"إسرائيل".

 

بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001، أعطت ألمانيا الأولوية للمصالح الأمنية ومكافحة الإرهاب على برامج الديمقراطية في المنطقة. وفي عهد أنجيلا ميركل، عادت السياسة الخارجية الألمانية إلى مسارها السابق، مع تدخل محدود، وتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، وتفاني متجدد في التكامل الأوروبي.

 

في الشرق الأوسط، التزمت ميركل بسياسة الحفاظ على أمن "إسرائيل"، لذلك دعمت ميركل المشاركة الألمانية في "قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان" (اليونيفيل) من خلال "القوة البحرية" وبررت مشاركة ألمانيا في تلك القوة بـ "المسؤولية التاريخية لألمانيا عن أمن إسرائيل" وتحقيق "الهدف المتمثل في دور حاسم للاتحاد الأوروبي في الشؤون الدولية" كحجج رئيسية لحشد الدعم المحلي لقرارها.

 

بعد الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2023، ومشاركة حزب الله في حرب الإسناد، عرضت ألمانيا أن تلعب دور الوسيط بين "إسرائيل" وحزب الله، مستندة الى تاريخ من الوساطة في هذا الإطار، إذ إنها ليست المرة الأولى التي تلعب فيها ألمانيا مثل هذا الدور، ففي فترات سابقة عمل الدبلوماسيون والأجهزة الأمنية الألمانية بفعالية كوسطاء في مفاوضات بشأن تبادل الأسرى بين "إسرائيل" وحزب الله. وبالطبع، فشلت الوساطة الألمانية في دفع حزب الله إلى وقف حرب الإسناد، وفشلت المهمة الألمانية في تأمين ما تريده "إسرائيل".

 

وبالخلاصة، وبالنظر إلى السلوك الألماني في الملفات الخارجية، لا شكّ يحاول الألمان العودة إلى الساحة الدولية بقوة، وأن يحجزوا لهم مكاناً في الشرق الأوسط، عبر التنافس مع الفرنسيين على دور محدود بهوامش ضيقة جداً يتركها الأميركي لحلفائه للقيام بها من ضمن سياسة توزيع الأدوار التي يتقنها في الشرق الأوسط.

 

وهكذا، تبدي ألمانيا رغبتها في لعب هذا الدور المتمثل في دعم "إسرائيل" ولعب دور "هامشي" يسمح به الأميركيون، وهو ما يفسّر الكلام غير الدبلوماسي وغير الإنساني الذي تطلقه وزيرة الخارجية الألمانية.

 

2024/10/17

الوحدة الداخلية لن تدوم: "إسرائيل" أمام تحديات وجودية

نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن وزير الأمن الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، قوله إنه تم توزيع 170 ألف قطعة سلاح على المستوطنين، منذ بداية الحرب على غزة، مؤكداً مواصلة تسليحهم. بالتوازي، تزداد الانقسامات داخل "إسرائيل" حول موضوع تجنيد الحريديم الذي أقرته المحكمة العليا، والذي يرفضه اليمين الإسرائيلي بقوة، فيما يرى العديد من الإسرائيليين أن هذا الموضوع يحتوي تمييزاً غير مقبول بين المواطنين، إذ يموت البعض بينما يجلس آخرون في مدارسهم الدينية ويقبضون الأموال الطائلة.

 

من ناحية أخرى، يسعى اليمين الإسرائيلي إلى استغلال الحرب الدائرة في غزة ولبنان لفرض قوانين كان قد تمّ رفضها في السابق، ومنها قانون مراقبة التعليم. يدرس الكنيست الإسرائيلي حالياً مشروع قانون تقدم به نواب من الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة، وعلى رأسهم حزب الليكود، يدعو إلى إخضاع القطاع التعليمي لسلطة "الشاباك"؛ وذلك لمراقبة المدارس والمناهج التعليمية والجهاز التعليمي. وكانت تلك الأحزاب - قبل حرب غزة- دعت إلى مراقبة ما يزيد على 250 ألف معلم إسرائيلي "يهود وعرب" والغوص في ملفاتهم الشخصية وتفنيدها إذا لزم الأمر، وذلك "من دون إجراء تحقيق قضائي مسبق"، بذريعة تسهيل فصل المشتبه بهم في "دعم الإرهاب".

 

ومع نمو اليمين المتطرف، يخشى العديد من الإسرائيليين من أن يكون مصير "إسرائيل" كمصير الممالك التي أسسها اليهود في التاريخ، إذ إن "التفكك الوطني" الذي دمّر المملكتين اليهوديتين السابقتين في التاريخ، يظل خطراً حاضراً على الدوام في الوعي الجمعي الإسرائيلي، ويحذّر هؤلاء من أن اليمين المتطرف قد يكون شرارة التفكك، أو ما يطلق عليه "لعنة العقد الثامن"."

 

 ما هي "لعنة العقد الثامن" اليهودية؟

تشير المصادر اليهودية إلى أن اليهود حكموا أنفسهم مرتين تاريخياً، ولكن خلافاتهم الداخلية أدت إلى تبديد تلك "الممالك"، وتشريد اليهود في أقاصي الأرض، وهما:

 

- المملكة اليهودية الأولى أسسها الملك داود، وحققت إنجازات وظلت موحدة لمدة 80 عاماً. وفي العام الحادي والثمانين، وبسبب الصراعات الداخلية، تفككت مملكة داود إلى مملكتين منفصلتين هما يهودا وإسرائيل، وهكذا بدأ سقوطها، وتفتّت القبائل الموجودة فيها وتشرذمت.

- المملكة اليهودية الثانية هي مملكة الحشمونائيم (استمرت لغاية سنة 37 قبل الميلاد). وقد استمرت هذه المملكة 77 عاماً كمملكة موحدة. وفي العقد الثامن من عمرها، بدأ الاقتتال الداخلي على العرش، ما دفع المتحاربين إلى اللجوء إلى روما للحماية. وبعدها، أصبحت مملكة الحشمونائيم تابعة للإمبراطورية الرومانية.

 

وفي محاولة لتبديد هذا القلق الوجودي، وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الإسرائيليين، في عام 2017، بالعمل على تخطي عقدة العقد الثامن، قائلاً: "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمناً، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة".

 

الوحدة الحالية لن تدوم

أما اليوم، وبالرغم من الوحدة الظاهرية، فإن الانقسامات الإسرائيلية العميقة قد تجعل مسألة الاحتراب الداخلي مسألة وقت فحسب.

 

إن ما يظهره الإسرائيليون من "وحدة" اليوم، لا يمكن أن يُبنى عليه، لأنه ينطلق من مبدأ معروف في العلاقات الدولية وعلم الاجتماع السياسي، ويسمى "متلازمة الالتفاف حول العلم"، وهو مفهوم يستخدم لشرح زيادة الدعم الشعبي "قصير الأمد" لحكومة دولة ما أو قادتها السياسيين خلال فترات الأزمات الدولية أو الحروب.

 

وتشير نظريات الحرب إلى أن أحد أسباب الحروب قد تكون محاولة أحد الزعماء استغلال ظاهرة "الالتفاف حول العلم"، فيقوم بافتعال أزمة دولية لتحويل الانتباه عن القضايا المحلية وتعزيز معدلات شعبيته عندما تبدأ في التدهور.

 

وعليه، وبالرغم من أن استطلاعات الرأي الحالية تظهر نوعاً من "الوحدة الداخلية" الإسرائيلية وتأييداً لسياسات اليمين المتطرف وحكومة نتنياهو، لكن هذا لا يلغي أنه بمجرد أن تنتهي الحرب (مهما كانت نتائجها العسكرية التكتيكية)، ستكون "إسرائيل" أمام أخطار استراتيجية كبرى، في ظل تحوّلها إلى "دولة" منبوذة عالمياً.

 

بعد الحرب، ستعود الانقسامات الداخلية أكبر مما كانت، وقد تؤدي فعلاً إلى احتراب إسرائيلي داخلي في ظل قيام بن غفير بتسليح المستوطنين المتطرفين، وسعي اليمين لتحويل "إسرائيل" إلى "دولة توتاليتارية" يمينية متطرفة، خصوصاً إذا ما عانى الاقتصاد الإسرائيلي من أزمات حادة، وهو أمر متوقع بشدة بعد الحرب.

 

إن ما سبق يدفع عدداً من الباحثين الإسرائيليين إلى التنبيه إلى أن الفلسطينيين واللبنانيين وحتى إيران ليسوا التهديد الحقيقي لـ"إسرائيل"، بل إن الانقسام والاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي، ونمو اليمين المتطرف يشكل تهديداً وخطورة أكبر على مستقبل المشروع الصهيوني في "إسرائيل".

  

2024/10/11

إيران والسعودية تكسران "الدائرة الحلزونية"

أتت زيارة وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقتشي، للسعودية، واللقاءات التي عقدها، لتشكّل تحدياً جديداً للمسار الذي لطالما سعت "إسرائيل" والولايات المتحدة لتكريسه في منطقة الخليح، بحيث عملتا على توجيه العداء العربي إلى إيران بدلاً من "إسرائيل"، وعدّها "تهديداً" للعرب في محاولة لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي ودفن القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى صراع عربي إيراني، وسنّي شيعي في المنطقة.

 

شكّلت هذه الزيارة، وما سبقها وما تلاها من تصريحات إيجابية بين الطرفين، تحدَياً واضحاً لكل ما تحدث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والخرائط التي عرضها في الأمم المتحدة، والتي أشار فيها إلى استمرار مسار التطبيع مع السعودية، مؤكداً أن هناك محورين في المنطقة، محوراً يضم "إسرائيل" مع السعودية والدول العربية الأخرى، التي سلكت طريق السلام مع "إسرائيل"، وهو ما سمّاه نتنياهو "محور النعمة"، بينما محور المقاومة هو "محور النقمة"، بحسب تصنيف نتنياهو.

 

لا شكّ، منذ دخول الأميركيين للمنطقة بصورة واسعة عبر احتلال العراق عام 2003، في أنه بدأت خطة تحويل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع سنّي شيعي وعربي إيراني، عبر التخويف مما أطلق عليه الملك عبد الله الثاني مصطلح "الهلال الشيعي"، الذي يتشكّل من إيران والعراق فسوريا ولبنان.

 

ومع خلق هذا "القلق الأمني" الجديد، انتقلت منطقة الشرق الأوسط إلى سباق تسلح وتوترات وتهديدات أمنية، وأدخلتها في "معضلة الأمن"، التي كادت تنذر بحرب كبرى. - صناعة "معضلة أمن" في الخليج تشير المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية إلى "معضلة الأمن" كونها مشابهة لدائرة حلزونية لا خلاص منها، بحيث تشعر الدولة بأن أمنها في خطر نسبة إلى الدول الأخرى، فتقوم بمحاولات زيادة قوتها العسكرية وعقد التحالفات من أجل المحافظة على أمنها، الأمر الذي يدفع الدول الأخرى في الإقليم إلى القيام بخطوات مماثلة، فتشعر تلك الدولة بانعدام الأمن مجدداً.

 

وبما أن الشكّ وعدم الثقة هما السمتان السائدتان، فهذا يؤدي إلى سباق تسلح وتهديدات متبادلة، وهكذا دواليك، إلى أن تصل الحالة إلى مرحلة قد تؤدي إلى حرب، على الرغم من أن لا أحد في البداية كان يريدها.

 

ويرى الواقعيون أن حدوث المعضلة الأمنية في نظام إقليمي معيّن يتأتى من عدم الثقة بين الدول والشكّ فب نيات الأطرف الآخرين، بحيث يشعر صاحب القرار بالخوف من نيات الآخرين، على الرغم من أنهم قد يعبّرون على نحو أنهم لا يقصدون الضرر أو الهجوم، بل هم فقط يريدون المحافظة على أمنهم. وهذا بالضبط ما تمّت "صناعته" في الخليج، بحيث تمّ التركيز على الخطر الإيراني وتعظيمه، وبذلك استفادت شركات السلاح الغربية، وخصوصاً الأميركية، من تعظيم "التهديد" الإيراني على الدول الخليجية، لدفعها إلى شراء السلاح بمئات مليارات الدولارات سنوياً، واستفادت "إسرائيل" من ذلك بتصويرها "حليفاً منطقياً" لدول الخليج في مواجهة "الخطر الإيراني".

 

وبالنظر إلى خلق المخاوف الأمنية، نجد أن إيران والدول الخليجية، بعد التدخل العسكري الأميركي في العراق، كانت أمام حقيقتين: القلق الأمني الإيراني المتأتي من وجود الأميركيين والقواعد العسكرية عند حدودها في العراق، الأمر الذي جعلها تحاول زيادة قوتها لحماية نفسها، واستفادة إيران من التطورات المستجدة عبر إسقاط نظام صدام حسين، وحصول المعارضة العراقية حليفة الإيرانيين على أغلبية واسعة في البرلمان العراقي.

 

على الرغم من رغبة جورج بوش في قلب موازين القوى في المنطقة وتصنيفه إيران ضمن "محور الشر"، الذي هدد دوله بأنها ستكون التالية بعد العراق، فإن إيران استفادت، عملياً، من التطورات اللاحقة، واستطاعت أن تكسر طوق الاحتواء الذي فرضه الأميركيون عليها بعد ثورة عام 1979، وهو ما جعل الدول العربية الخليجية تشعر بالقلق من زيادة القوة الإيرانية، وتسعى لإقامة توازن قوى مجدداً.

 

اتفاق بكين يخرق الدائرة الحلزونية: منذ التفاهم السعودي الإيراني في بكين عام 2023، راهن كثيرون في الغرب و"إسرائيل" على ألّا يعمّر هذا الاتفاق طويلاً، مؤكدين أن الخلافات بين الدولتين أعمق من أن يرممها اتفاق، وأنه سيبقى حبراً على ورق، واستمرت المحاولات الأميركية والإسرائيلية لعزل إيران ومنعها من تعزيز علاقاتها بالدول الخليجية العربية، عبر مشاريع استثمارية طرحتها إدارة الرئيس بايدن، منها مشروع الممر الاقتصادي من الهند إلى أوروبا، مروراً عبر دول الخليج ومرفأ حيفا.

 

وكانت أحداث الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر، والتي ادعى بايدن أنها أتت لتعرقل مسار التطبيع الإسرائيلي السعودي، نافذة لتحسين العلاقات السعودية الإيرانية، وفتحت مساراً تمّ تتويجه مؤخراً بلقاء الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ووزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، ولقاء ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، ووزير خارجية إيران، عباس عراقتشي، بحيث تحدث بعض التقارير الصحافية عن أن السعودية ستكون وسيطاً بين الأميركيين والإيرانيين، وأنها ستسعى لمنع تدهور المنطقة إلى حرب كبرى كما يريد نتنياهو.

 

إذاً، استطاعت إيران والدول الخليجية الانفكاك من "المعضلة الأمنية" التي كادت تتسبب بحرب إقليمية، وانتقلت من مرحلة الاشتباك إلى مرحلة التعاون لتأمين الاستقرار في المنطقة والتعاون في حلّ الملفات الإقليمية، على نحو يؤدي إلى إجهاض كل ما تمّ استثماره سابقاً في مشاريع الفتنة التي رعتها وأدارتها "إسرائيل".

 

2024/10/06

حلف عسكري لضرب إيران: هل أسقطه العرب؟

في ظل التهديدات الإسرائيلية لإيران، والحديث الأميركي عن دعم "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وتأكيد الانخراط الأميركي في الردّ داخل الأراضي الإيرانية، وفي ظل تباهي الحزبين في الولايات المتحدة بمَن يدعم "إسرائيل" أكثر في عدوانها على إيران ولبنان وفلسطين واليمن، يجري الحديث عن التأسيس لشرق أوسط جديد تفرض فيه الولايات المتحدة الأميركية هيمنتها، وتُضعف إيران وتكرّس التفوّق الإسرائيلي في المنطقة.

 

ورداً على مشاريع نتنياهو العدوانية، ورغبة الإدارة الأميركية في التوسع العدواني في المنطقة عبر ضرب إيران، أكّدت دول الخليج العربية (الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمملكة العربية السعودية وقطر والكويت) للرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خلال الاجتماعات في الدوحة، أنها "ستكون على الحياد في الصراع بين طهران وإسرائيل"، وأنها لن تسمح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها العسكرية الموجودة على أراضيهم للاعتداء على إيران.

 

كما أكد وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أن السعودية تسعى "إلى إغلاق صفحة الخلافات بين البلدين إلى الأبد، والعمل على حل قضايانا وتوسيع علاقاتنا كدولتين صديقتين وشقيقتين"، وأشار إلى الوضع "الحساس والحرج للغاية" في المنطقة بسبب "اعتداءات" إسرائيل على غزة ولبنان ومحاولاتها توسيع الصراع في المنطقة، ومؤكداً أن السعودية تثق في حكمة إيران وفطنتها في إدارة الوضع والمساهمة في استعادة الهدوء والسلام في المنطقة.

 

وعليه، لا شكّ أن ما قاله الخليجيون في الدوحة، وإعلانهم الحياد يضرب إلى حدٍ بعيد مشروعاً أميركياً – إسرائيلياً يهدف إلى إنشاء تحالف عسكري شرق أوسطي يضم الدول العربية و"إسرائيل" ومعهم الأميركيين، وهو حلم لطالما ردده الأميركيون وسعوا إليه منذ إدارة دونالد ترامب.

 

1مشروع ترامب لاستهداف إيران

بالرغم من أن لـ"إسرائيل" الكثير من المصالح والرغبة في العدوان على إيران، فإن مَن يقود ذلك عملياً هو الإدارة الأميركية، وهو مشروع برز بشكل واضح مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خصوصاً في ظل موجة التطبيع التي سارت بشكل وثيق خلال فترة إدارته، ودعوته إلى إنشاء حلف عسكري شرق أوسطي، تحت مسمّى "تحالف استراتيجي للشرق الأوسط"، والذي أطلق عليه في العالم العربي اسم "الناتو العربي"، ويضم كلاً من دول الخليج ومصر والأردن و"إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية.

 

وبالرغم من قدرة الإدارة الأميركية حينها على دفع بعض الدول العربية إلى التطبيع مع "إسرائيل"، عبر العديد من الإغراءات والمكاسب، لكن، لم يتسنَ لإدارة ترامب أن تحقق طموح إنشاء تحالف عسكري بسبب التباين بين دول المنطقة، والتناقضات العربية، وبعض المحاذير الأخرى المتعلقة بإنشاء تحالف عسكري مع "إسرائيل"، وتأثير ذلك في الأمن القومي الخليجي بالتحديد.

 

2مشروع بايدن العسكري في المنطقة

بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، وجدت الولايات المتحدة الأميركية أنها تحتاج إلى تعاون خليجي لزيادة إنتاج النفط من أجل ضبط أسعار النفط العالمية، في ظل العقوبات الغربية على الطاقة الروسية، بالإضافة إلى احتواء النفوذ الصيني المتصاعد في الخليج، لذا عمدت إدارة بايدن إلى تقديم مبادرات تنموية استثمارية تضم "إسرائيل" ودول الخليج والهند، بالإضافة إلى عودة الحديث عن التحالف العسكري الشرق أوسطي، والذي مهّد له ملك الأردن في مقابلة تلفزيونية، بالقول إنه منفتح على إنشاء تحالف عسكري يشبه "حلف الناتو".

 

وخلال زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة في تموز/ يوليو عام 2022، والتي كان هدفها المعلن إقناع المملكة العربية السعودية والدول المجاورة بالحاجة إلى زيادة إمدادات النفط العالمية؛ استجابةً لأزمة الطاقة التي أحدثتها الحرب في أوكرانيا، إلا أن ما لم يتم ذكره هو رغبة بايدن في الدفع قدماً بما تمت مناقشته خلال اجتماع أمني عسكري – كشفت عنه مجلة "وول ستريت جورنال" الأميركية - عُقد في شرم الشيخ خلال آذار/مارس عام 2022 بين مسؤولين عسكريين أميركيين ونظرائهم الإسرائيليين والأردنيين والمصريين والخليجيين بهدف التنسيق ضد قدرات إيران الصاروخية المتنامية وبرنامجها للطائرات من دون طيار.

 

عملياً، لم يستطع بايدن أن يُقنع الدول الخليجية بالسير بمشاريع عسكرية ضد إيران، وكان الحدث الأبرز في المنطقة الذي قوّض كل المشاريع الإسرائيلية -الأميركية باستخدام دول الخليج ضد إيران هو "اتفاق بكين" الذي أعاد العلاقات بين إيران والسعودية، وطوى صفحة من الصراع في الشرق الأوسط والخليج.

 

أما اليوم، وبعد تطور الحرب في الشرق الأوسط، واحتمالات الانجرار إلى حرب شاملة في المنطقة، بعدما اندفع نتنياهو إلى تلك الحرب بضوء أخضر من الإدارة الأميركية، أتت الإعلانات العربية في الدوحة لتنهي حلماً أميركياً باستخدام دول المنطقة في صراع الكل ضد الكل، وتأجيج صراع سني- شيعي، وإيراني- عربي، لتأمين أمن "إسرائيل" وتفوّقها.