2024/09/30

تهديد لبنان بالاجتياح البري: ما له وما عليه

لتزامن مع العدوان الإسرائيلي على لبنان، يقوم وزير الخارجية الفرنسي، نويل بارو، بزيارةٍ للبنان، يُجري خلالها محادثات مع المسؤولين اللّبنانيّين، من أجل البحث في إمكان التوصل إلى حلّ سياسي يُنهي الحرب الدائرة حالياً.

 

في المقابل، ما انفكّ "الجيش" الإسرائيلي يهدد باجتياح برّي للبنان فيما يسميه "عملية برّية محدودة في عمق الأراضي اللبنانية"، في ظل اقتناع الجميع بأن هناك احتمالاً كبيراً لتوسّع الردود من لبنان ومحور المقاومة على اغتيال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، في الضاحية. ونقلت صحيفة "معاريف"، عن مصادر إسرائيلية مطلعة، قولها إن "قرار العملية البرية في لبنان لم يُتَّخَذْ بعدُ، لكن الجيش مستعد لذلك". وذكرت أن "العملية البرية في لبنان ستكون محدودة في حال المصادقة عليها".

 

منذ حرب تموز عام 2006، تستعد "إسرائيل" لحرب مع لبنان، وقامت من أجل ذلك بمناورات كبرى عسكرية تحاكي حرباً ضدّ لبنان، في عدّة أماكن، منها في قبرص. وقامت بتعزيز الجبهة الداخلية، وبنت الملاجئ، وجهّزت المستشفيات بملاجئ، ونقلت حاويات الأمونيا من حيفا، وعززت دفاعاتها الجويّة.

 

وانطلاقاً من مبدأ الحروب، القائل بتعزيز قوتك ومحاولة إضعاف خصمك ومنعه من اكتساب القوة، قامت باعتماد استراتيجية "المعركة بين الحروب" منذ عام 2013، أي بعد تدخّل حزب الله في سوريا - لاحقاً، اعتمدتها رسمياً في وثيقة الجيش الاستراتيجية الصادرة عام 2015 - والتي تُصنف بأنها عمليات عسكرية تحت عتبة الحرب.

 

كانت استراتيجية المعركة بين الحروب تهدف إلى إضعاف قدرات الحزب، من خلال منع نقل أسلحة متطورة من طهران إلى لبنان، ومنعه من تأسيس بنية تحتية عسكرية راسخة في جنوبي سوريا، وإضعافه بصورة تؤدي إلى ارهاقه ومنعه من مراكمة القدرات تحضيراً للحرب المقبلة، عبر استهداف تلك الشحنات في سوريا، والتعاون مع الأميركيين على تجفيف منابع التمويل (سياسة العقوبات والتعقّب والضغوط القصوى).

 

في التقويم الموضوعي للمعركة بين الحروب، يتبين أنها لم تنجح في منع حزب الله من تعزيز ترسانته العسكرية، فزاد عدد الصواريخ عما كان عليه العدد في حرب تموز 2006، وامتلك القدرات التقنية وطوّر صواريخه وأقام الأنفاق، وامتلك الصواريخ الدقيقة، بالإضافة إلى قيام الحزب بتصنيع الطائرات المسيّرة محلياً... إلخ.

 

وبالعودة إلى الحرب البرّية، التي يهدد الإسرائيلي بشنّها على لبنان، يمكن أن نستنتج أن أهدافها يمكن أن تكون على النحو التالي:

 

1- إبعاد حزب الله عن الحدود مع شمالي فلسطين المحتلة، وصولاً إلى جنوبي الليطاني.

 

2- جعل منطقة جنوبي الليطاني خالية من السلاح ومن الوجود العسكري للحزب.

3- إعادة سكان المستوطنات إلى الشمال.

4- منح اليونيفيل (أو قوى دولية أخرى) حرية التفتيش عن السلاح ومداهمة المخازن ومصادرة الأسلحة.

5- التشدد في مراقبة تهريب السلاح عبر الحدود السورية اللبنانية.

 

لكن الحرب الإسرائيلية البرّية ستكون مكلفة بالطبع، ولن يكون في مقدور "الجيش" الإسرائيلي إنهاؤها في مدة محدودة، كما يهدد ويتوعد، إضافة إلى أن الجيش الإسرائيلي يجب أن يضع في الحسبان تحوّل تلك الحرب إلى حرب طويلة ومعركة استنزاف مكلفة جداً، فالجيوش النظامية عادةً لا تستطيع أن تنجح في حروب لامتماثلة، وخصوصاً إذا استُخدم فيها أسلوب حرب العصابات، مع العلم بأن الجغرافيا تلعب لمصلحة المقاومين من أهل الأرض.

 

ومع تحوّل الحرب إلى حرب استنزاف، سيضع "الجيش" الإسرائيلي في حسابه عدم قدرته على إلحاق هزيمة بحزب الله، كما حدث في حرب تموز 2006، وهو ما سيجعل الحزب أقوى مما كان عليه قبل هذه الحرب.

 

زد على ذلك احتمال أن تنخرط قوى المقاومة جميعها في هذه الحرب، وفتح جبهات متعددة لن تستطيع "إسرائيل" الصمود فيها.

 

وفي ذهن الإسرائيلي تاريخ مرير مع اجتياح لبنان. ففي عام 1982، قامت "إسرائيل" باجتياح لبنان، وحاصرت بيروت، واحتلت أول عاصمة عربية على الإطلاق.

 

لكن، ما إن بدأت المقاومة اللبنانية تنفيذ عمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي حتى انسحب الإسرائيليون من بيروت، وأقاموا حزاماً أمنياً في الجنوب اللبناني.

 

واستمرت المقاومة اللبنانية في الجنوب في تنفيذ عمليات ضد "جيش" الاحتلال حتى طردته من لبنان منهزماً عام 2000.

 

إذاً، الحرب البرّية، التي تهدد بها "إسرائيل" ستكون مكلفة وغير مضمونة النتائج، ويخشاها الإسرائيلي على الرغم من تهديده بها. لذا، سيحاول الأميركيون الضغط على لبنان، سواء مباشرة أو عبر الفرنسيين، لتحقيق أهداف الحرب الإسرائيلية المذكورة أعلاه. وعليه، على اللبنانيين الحذر من أن تحصل "إسرائيل"، عبر السياسة والضغوط الدبلوماسية، ما لا تستطيع أن تحققه بالحرب. 

2024/09/18

تفجير "البيجر": ماذا يقول القانون الدولي؟

كشفت مصادر أمنية لبنانية، أنّ أجهزة "البيجر" التي انفجرت في أنحاء لبنان وفي سوريا والتي تسبّبت بمقتل مدنيين بينهم أطفال وجرح الآلاف من اللبنانيين، كانت مفخّخة من المصدر عبر قطعة "آي سي" في جهاز "البيجر"، التي احتوت المواد المتفجّرة، وأنّ هذه المواد المفخّخة والمتفجّرة "لا تُكشف عند أي فحص عبر الأجهزة المتعارف عليها"، بحيث "لم يكن في الإمكان لأجهزة الكشف المتوفّرة وحتى لدول ومطارات عالمية كشف المادة المفخّخة المزروعة وبتقنيات مركّبة لخوارزميات خاصة بهذه العملية".

 

وأكّدت المصادر أنّ جهازَي "الموساد" و"أمان" الإسرائيليين هما وراء هذه الضربة العدوانية، إذ استخدمت "إسرائيل" شركة عالمية، وجهازاً مدنياً مع تحكّم بالعالم السيبراني، واتخذت قراراً بالقتل الجماعي المتعمّد.

 

لا شكّ أنّ هذا العدوان الإسرائيلي الذي اشتمل على تفخيخ وتفجير أجهزة "البيجر" في لبنان يثير انتهاكات كبيرة للقانون الدولي، حيث يعدّ هذا الهجوم عدواناً على الدولة اللبنانية وخرقاً لسيادتها، والذي يحقّ للدولة اللبنانية بموجبه التقدّم بشكوى ضدّ "إسرائيل" أو القيام بما تراه مناسباً للدفاع عن النفس والذي يمكن أن يتضمّن الردّ بالمثل أو بوسائل عسكرية أخرى.

 

كذلك، تخطّت "إسرائيل" في هذا العدوان كلّ القواعد المحرّمة في الحروب الأمنية، ارتكبت انتهاكات جسيمة لقوانين الحرب، ونذكر منها ما يلي:

 

1- انتهاك مبدأ حماية المدنيين

يفرض القانون الإنساني الدولي حماية المدنيين أثناء النزاعات. ويُحظر استهداف المدنيين أو التسبّب في ضرر غير متناسب.

 

إن قتل المدنيين العشوائي الذي قامت به "إسرائيل" عبر استخدام أجهزة "البيجر" أو أيّ وسيلة أخرى يعدّ جريمة بموجب اتفاقيات جنيف الأربع الصادرة عام 1948 والتي تشكّل أساس القانون الدولي الإنساني. وعلى وجه التحديد، تحظر المادة المشتركة الثالثة من اتفاقيات جنيف "الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله" للمدنيين والأشخاص الذين لا يشاركون بنشاط في الأعمال العدائية. بالإضافة إلى ذلك، فإن القتل العمد للأشخاص المحميين مدرج باعتباره انتهاكاً خطيراً في جميع اتفاقيات جنيف الأربع.

 

2- مبدأ "عدم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية"

 

من المهم الإشارة إلى أنّ الحرب بين حزب الله و"إسرائيل" والتي لا تندرج مباشرة تحت إطار الحروب بين الدول، مشمولة بقواعد القانون الإنساني الدولي الخاصة بالنزاعات المسلحة غير الدولية. بموجب هذا التوصيف للنزاع، يكون القانون التعاهدي النافذ هو "المادة الـ3 المشتركة في اتفاقيات جنيف" التي تحمي المقاتلين الأسرى والمدنيين من القتل والمعاملة القاسية واللاإنسانية. كذلك تنطبق على المنتسبين إلى حزب الله من غير المدنيين والذين تمّ تفجيرهم بواسطة أجهزة "البيجر" ما ينطبق على المقاتلين الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية وبالتالي هم محميون بموجب القانون الدولي.

 

وتشمل المبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي، وخاصة تلك الموضّحة في اتفاقيات جنيف حول "مبدأ عدم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية"، ما يلي:

 

أ‌- التمييز

 

يتطلّب القانون الإنساني الدولي من أطراف النزاع التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين (المدنيين). أما المقاتلون الذين لا يشاركون بنشاط في الأعمال العدائية، فهم محميون بموجب اتفاقيات جنيف وبالتالي يتمّ اعتبارهم مدنيين لغاية مشاركتهم المباشرة في القتال أو في النشاط الحربي والعسكري، فتسقط عنهم هذه الصفة.

 

ب‌- التناسب

 

يرتكز القانون الدولي بشكل أساسي على مبدأ التناسب، والذي يحظر أي هجوم يؤدي إلى التسبّب في ضرر مفرط للمدنيين والأهداف المدنية فيما يتعلق بالميزة العسكرية المتوقّعة. إن استهداف المقاتلين الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية ينتهك هذا المبدأ.

 

ج-مبدأ الضرورة العسكرية

 

ينصّ القانون الدولي على عدم جواز استهداف المدنيّين إلا لمبدأ الضرورة العسكرية، وبالتالي يجب على أطراف النزاع اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنّب أو تقليل الضرر العرضي للمدنيين والأهداف المدنية، وهم ما لم تحترمه "إسرائيل" بل تعمّدت قتل المدنيين بشكل عشوائي.

 

3- التداعيات القانونية على العدوان الإسرائيلي

لقد أتى مبدأ "حظر قتل المدنيين" واضحاً في القانون الدولي، الذي يعتبر أنّ أيّ هجوم متعمّد على المدنيين، بما في ذلك استخدام أساليب غير تقليدية مثل انفجارات أجهزة "البيجر" محظور ويُعدّ جريمة حرب. ويمكن تصنيف الاستهداف المتعمّد للمقاتلين الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية على أنه جريمة حرب أيضاً.

 

أما إذا كان قتل المدنيين والتسبّب بأضرار لهم وعدم التمييز بينهم وبين المقاتلين، قد حصل على نطاق منهجي واسع، فيمكن أن يرقى إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية.

 

وبما أنّ القانون الدولي ينصّ على تحميل الدول المسؤولية عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني التي ترتكبها قواتها المسلحة أو غيرها من الوكلاء، ويؤكد أن المسؤولية الجنائية فردية، فإن المسؤولين الإسرائيليين الذين اتخذوا القرار ونفّذوا هذا العدوان يُعدّون مسؤولين جنائياً عن هذا الفعل.

 

وعليه، يمكن محاكمة المسؤولين الإسرائيليين بموجب القانون الدولي، بما في ذلك من قبل المحكمة الجنائية الدولية في حال قرّر لبنان أن يعطي المحكمة هذه الصلاحية، ويشتكي ضدّ المسؤولين الإسرائيليين بقتل الصحافيين اللبنانيين عمداً في وقت سابق، وفي الاعتداء الذي قامت به عبر تفجير أجهزة "البيجر" والتسبّب بقتل وأذى للمدنيين اللبنانيين مؤخراً.

 

2024/09/14

الاستنزاف المكلف: هل وقعت "إسرائيل" في الفخ؟

تتوالى الاستقالات ضمن "الجيش" والشرطة الإسرائيليين. وفي وقت أعلن رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي نيّته الاستقالة، في كانون الأول/ديسمبر المقبل، تمّ إعلان استقالة يوسي شاريئيل، قائد وحدة الاستخبارات الإسرائيلية (8200) من منصبه، وهو ثاني مسؤول كبير في الاستخبارات الإسرائيلية يستقيل، بسبب الفشل في التصدي لهجوم الـ7  من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بعد أن كان رئيس شبكة "أمان" أهارون هاليفا استقال للسبب نفسه في نيسان/أبريل الماضي.

 

ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حدثت استقالات أخرى داخل "الجيش"، أبرزها استقالة قائد "فرقة غزة" العميد آفي روزنفيلد، وقائد القوات البرية اللواء تامير ياداي، في وقت قال المراقبون إن تلك الاستقالات تعكس المشكلات التي يعانيها جيش الاحتلال في حربه على غزة، وتجسّد هروباً من الفشل في تحقيق أهداف الحرب.

 

على الرغم من مرور أحد عشر شهراً على بدء الحرب على غزة، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن "حكومة نتنياهو أبلغت المحكمة العليا أن إسرائيل لا تحتفظ بسيطرة فعّالة على قطاع غزة، وأن حماس لا تزال تستطيع ممارسة صلاحيات الحكم في غزة، وأن الجيش لا يزال يتعرض لمقاومة في القطاع تحت الأرض وفوقها".

 

إن عرض ما سبق يشير، بصورة عامة، إلى أن "إسرائيل" دخلت في وضع "الاستنزاف المكلف"، والذي تجد نفسها فيه في وضع "خاسر- خاسر"، وهي حالة تمّ توصيفها في العلاقات الدولية، وخصوصاً في نظرية اللعبة، بحيث يجد فيها اللاعب نفسه في موقف عليه أن يتصرف، لكنه واقع في فخ محكَم، بحيث لا يستفيد فيه من أي نتيجة مهما كان الخيار الذي سيتخذه.

 

"إسرائيل" ووضع "خاسر- خاسر"

تشبه هذه النظرية حالة Zugzwang، وهي حالة موجودة في لعبة الشطرنج وغيرها من الألعاب القائمة على الأدوار، بحيث يصبح وضع اللاعب حرجاً وفي وضع غير موات (فخ) بسبب التزامه إجراء حركة. ويقال إن اللاعب "في وضع Zugzwang" عندما تؤدي أي حركة إلى تفاقم موقفه.

 

وبالنظر الى حرب غزة، فإن وضع نتنياهو حالياً يشبه تلك الحالة، فوقف الحرب يعني خسارة كبيرة سياسية له شخصياً ولليمين الإسرائيلي، وخسارة لـ"إسرائيل" على الصعيد الاستراتيجي.

 

أما استمرارها فمكلف أيضاً، وخصوصاً بعد أن اعترفت حكومة نتنياهو بأن حماس ما زالت تسيطر على غزة على الرغم من التكاليف البشرية والعسكرية وتأكّل الردع، وانهيار السمعة الدولية، والاتهامات بالإبادة في أعلى محكمتين دوليتين في العالم.

 

وهكذا، تكون "إسرائيل" فعلياً دخلت مرحلة حرب الاستنزاف المكلفة، أي الحرب التي تستمر وقتاً طويلاً من دون قدرة أي طرف على إنهائها. وبما أن "إسرائيل" هي التي تمتلك مفاتيح القرار بوقف الحرب، فإن حرب الاستنزاف هي الفرصة الأكيدة للمقاومة الفلسطينية في إرهاق العدو، وتقليص قدرته على شن الحرب من خلال تدمير موارده العسكرية بأي وسيلة، بما في ذلك حرب العصابات والدهس والعمليات من مسافة صفر وإتقان الحرب النفسية للتأثير في "الجبهة الداخلية" الإسرائيلية وغيرها من الوسائل التي ترهق الإسرائيليين وتستنزفهم بطريقة بطيئة إن لم يكن متوافراً عامل الحسم السريع بالنسبة إلى الطرف الأضعف في هذه المعادلة.

 

وهكذا، بالنظر الى الاستنزاف (ولو البطيء) الذي تعانيه "إسرائيل" في حرب غزة، نفهم لماذا يفضّل الإسرائيلي دائماً الحرب الخاطفة منذ عام 1967؛ أي الحرب التي تقوم على استخدام عنصر المفاجأة والهجوم بقوة وبسرعة لتحقيق انتصار سريع على العدو، بأقل تكلفة ممكنة، وفي وقت قصير.

 

النصر باهظ الثمن

بالعودة الى نصيحة كارل فون كلاوزفيتز بعدم شنّ حرب لا يمكن الفوز فيها، نجد أن من الأخطاء الاستراتيجية، التي وقع فيها القادة السياسيون الإسرائيليون، هو "تحديد أهداف الحرب (تعريف النصر)"، بحيث إن أي نتيجة أقل من تلك الأهداف تُعَدّ خسارة استراتيجية

 

هكذا، نجد أن الحرب في غزة أدخلت "إسرائيل" في حالة النصر باهظ الثمن، وهي الحالة التي يكون النصر العسكري مكلفاً للغاية إلى درجة أن الجانب الفائز ينتهي به الأمر في الواقع إلى أن يصبح في وضع أسوأ مما كان عليه قبل أن يبدأ.

 

وإذا نظرنا إلى النصر كجزء من موقف أكبر، فقد يكون الموقف إما لا يمكن الفوز فيه، وإما بمردود أكثر للجانب الآخر من ذلك الذي فاز بـ "النصر"، وإما يكون نصراً بتكلفة عالية تفوق المكاسب، لذا لم يعد مصدراً لادعاء الانتصار.

 

على سبيل المثال، كانت الإمبراطورية البريطانية واحدة من القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لكنها كانت ضعيفة للغاية إلى درجة أنها لم تعد قادرة على المحافظة على مكانتها كقوة عظمى في عالم أصبحت تهيمن عليه الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

 

في الخلاصة، على الرغم من قيام الآلة العسكرية الإسرائيلية بتدمير غزة وقتل ما يزيد على 40 ألف فلسطيني، فيمكن القول إن "إسرائيل" ستصل يوماً الى إعلان أنها "فازت بمعركة"، لكنها عملياً "خسرت الحرب"، وستكون صحّت تحذيرات وزير الدفاع الأميركي، الذي حذّر الإسرائيليين من الربح التكتيكي والخسارة الاستراتيجية.

  

2024/09/06

انقسام الحركة التقدمية لا يكفي لفوز كامالا هاريس

على الرغم من أن استطلاعات الرأي المتعددة في الولايات المتحدة الأميركية تعطي أرجحية لكامالا هاريس بالفوز على دونالد ترامب، فإن تلك الاستطلاعات لا تبدو كافية للحزب الديمقراطي للاطمئنان إلى أن مرشحته الرئاسية ستكون في البيت الابيض لفترة أربعة أعوام مقبلة.

 

لقد أظهرت استطلاعات الرأي لعام 2016 تقدماً لهيلاري كلينتون على دونالد ترامب، لكنّ النتائج أتت مغايرة للاستطلاعات. كذلك، في عام 2020، أظهرت أغلبية استطلاعات الرأي أن المرشح الديمقراطي جو بايدن سيخسر الانتخابات أمام الرئيس في السلطة آنذاك دونالد ترامب، لكنه فاز، الأمر الذي جعل الجمهوريين يتهمون الديمقراطيين بتزوير الانتخابات.

 

أما بالنسبة إلى حظوظ كامالا هاريس في الفوز، فإن التبرعات الهائلة، التي حصلت عليها والتي تفوقت على التبرعات التي حصل عليها الحزب الجمهوري، لا تكفي وحدها ما لم تستطع هاريس أن تدافع عن نفسها وعن إدارة جو بايدن فيما خص التضخم الاقتصادي والهجرة غير الشرعية، والحصول على تأييد الناخبين الأميركيين المؤيدين لغزة، وخصوصاً في الولايات المتأرجحة.

 

وكان الناشطون المؤيدون لغزة، وهم من فئات الشبان، ومن العرب والمسلمين وغيرهم، يعولون على "الحركة التقدمية" في الحزب الديمقراطي للضغط على كامالا هاريس لتغيير خطاب الإدارة بشأن دعم "إسرائيل"، ووقف إطلاق النار، وحظر تصدير السلاح الأميركي إلى "إسرائيل"، والذي تستخدمه لارتكاب الإبادة في غزة.

 

وكان عدد من المجموعات الشبابية والناشطين التقدميين عبّر عن دعمه حقوق الفلسطينيين، وهو ما أدى إلى انتفاضة الطلبة في الجامعات. كذلك، أعربت منظمات مثل Sunrise Movement، التي تركز في المقام الأول على القضايا البيئية، عن تضامنها مع الفلسطينيين، بالإضافة إلى حركة Black Lives Matter التي أكدت أوجه التشابه بين نضالات الأميركيين السود والفلسطينيين.

 

لكن من المفيد القول، بصورة عامة، إن الحركة التقدمية في الولايات المتحدة ليست متجانسة، ويمكن أن تتباين وجهات النظر داخلها بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على الرغم من أن الأغلبية العظمى من الحركة التقدمية كانت مؤيدة لفلسطين، وخصوصاً المجموعات التي تمثّل الشبان والتقدميين الأصغر سناً، والذين ينتقدون السياسة الخارجية الأميركية والدعم غير المحدود لــ"إسرائيل"، ويدافعون عن حقوق الفلسطينيين.

 

لكن، بعد انسحاب جو بايدن وترشيح كامالا هاريس، حدث انقسام داخل الحركة التقدمية نفسها بشأن تأييد هاريس، على الرغم من عدم إعطاء أي وعود انتخابية واضحة للحركة التقدمية، وعلى الرغم من محاولتها إمساك العصا من الوسط، وتعهدها الدفاع عن "إسرائيل" وحمايتها، على نحو يشير إلى عدم رغبتها في تغيير مسار جو بايدن وإدارته في مسألة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على النحو التالي:

 

- على صعيد المنظمات: قامت مجموعة من المنظمات التقدمية، مثل مركز العمل الديمقراطي الشعبي، وحزب العائلات العاملة، ومنظمة العمل الشعبي، بجهود تعبئة شعبية واسعة النطاق لدعم هاريس، مشيدةً بدورها في تمرير تشريعات مهمة، مثل قانون الحد من التضخم، بينما قامت منظمات أخرى بحجب الدعم عن هاريس لأسباب متعددة، منها ما هو متعلق بالأجندة التقدمية نفسها، ومنها ما هو متعلق بفلسطين.

 

- على صعيد الشخصيات، أحجم النائب البارز، برني ساندرز، عن تأييد كامالا هاريس مطالباً بالتزامات أكثر واقعية بأجندة الطبقة العاملة وغيرها من الأولويات. أما أعضاء "squad" فانقسموا ايضاً، فأعلنت شخصيات رئيسة، مثل النائبتين ألكساندريا أوكاسيو كورتيز وإلهان عمر وغيرهما تأييد كامالا هاريس، وشددت على أهمية وحدة الحزب لهزيمة دونالد ترامب، بينما انتقدت النائبة رشيدة طليب تعامل الإدارة مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولم تؤيد هاريس.

 

في المقابل، أعربت عدة مجموعات داخل الحزب الديمقراطي عن معارضتها الشديدة لدعم نائبة الرئيس، كامالا هاريس، ما لم تتخذ موقفاً أكثر تأييداً للفلسطينيين. وفيما يلي بعض النماذج:

 

1. "نساء مسلمات من أجل هاريس - والز": انحلت هذه المجموعة احتجاجاً على رفض اللجنة الوطنية الديمقراطية السماح لأميركية فلسطينية بالتحدث في مؤتمر الحزب الديمقراطي، أسوة بأهالي الأسرى الإسرائيليين في غزة. وأكدت الجمعية أنهم لا يستطيعون، بضمير مرتاح، مواصلة دعمهم نظراً إلى عدم وجود تمثيل للأصوات الفلسطينية.

 

2. "حركة غير ملتزم": كانت هذه الحركة، التي نظمت عدداً كبيراً من الأصوات "غير الملتزمة" خلال الانتخابات التمهيدية الديمقراطية، صريحة بشأن مطالبها باتباع نهج أكثر توازناً في التعامل مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وطالبوا بفرض حظر على الأسلحة الإسرائيلية، وإلا فإن اصواتهم لن تُمنح للحزب الديمقراطي سواء كان المرشح جو بايدن أو كامالا هاريس.

 

وأوضح عدد من الناشطين والجماعات المؤيدة للفلسطينيين عدم دعم هاريس ما لم تلتزم الانفصال عن سياسة جو بايدن بشأن الدعم غير المشروط لـ"إسرائيل"، والسعي بجدية لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة.

 

في المحصلة، على الرغم من أن أركان النخب التقليدية في الحزب الديمقراطي استطاعت تفكيك الجبهة الداعمة لفلسطين داخل الحزب بعد قيامها بسحب جو بايدن، فإن ذلك يبقى غير كافٍ لنجاح هاريس التي تخوض معركة كبيرة مع دونالد ترامب، ويبقى عليها أن تضمن أصوات المؤيدين لفلسطين في الولايات المتأرجحة، ومنها ميشيغان وبنسلفانيا  وويسكنسون، للفوز في الانتخابات.

  

2024/09/01

عمليات الضفة الغربية: بين الهدف النهائي والأهداف المرحلية

بعد بدء "جيش" الاحتلال الإسرائيلي حملة عسكرية واسعة شمال الضفة الغربية، دعا وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس إلى إخلاء السكان الفلسطينيين مما سمّاه مناطق "يهودا والسامرة"، معتبراً أنّ على "إسرائيل أن تتعامل مع الضفة الغربية تماماً كما تعاملت مع غزة". وقال كاتس إن إيران تعمل "على إنشاء جبهة إرهابية شرقية" في يهودا والسامرة، على غرار نموذجها بالوكالة في لبنان مع حزب الله وقطاع غزة مع حماس، من خلال "تمويل وتسليح الإرهابيين وتهريب الأسلحة المتقدّمة من الأردن".

 

تعكس هذه التصريحات الإسرائيلية سلسلة من الأهداف المترابطة والثابتة، والتي يتمّ تحقيقها عبر ما يقوم به المستوطنون من أعمال عنف ضدّ الفلسطينيين بقبول ودعم عسكري وسياسي إسرائيلي، والتي يؤمل منها في النهاية تحقيق الهدف النهائي وهو "حلم إسرائيل الكبرى" التي تقول الأساطير التوراتية الإسرائيلية إن "مملكة إسرائيل" المنوي تأسيسها لا يمكن أن تبدأ إلا عبر يهودا والسامرة (أي الضفة الغربية).

 

لماذا "يهودا والسامرة"؟

يشير اليهود المتديّنون إلى أنّ الضفة الغربية هي جزء لا يتجزأ من التاريخ اليهودي، وأنّ اليهود عاشوا في مناطق يهودا والسامرة منذ العصور التوراتية. وفي تبرير لما يقوم به المستوطنون ولعمليات ضمّ الأراضي في الضفة الغربية، يدّعون أنّ "الكتاب المقدّس يذكر أنّ أوّل مكان تحدّث فيه الرب مع إبراهيم وحيث وعده بالأرض كعهد أبدي كان في إيلون موريه، في السامرة" أي بالتحديد في منطقة جبلية قرب نابلس.

 

ويُذكر أن مستوطنة "إيلون موريه" تمّ تأسيسها عام 1983، وبعدها تمّ اعتبار الجبل الكبير المحاذي محمية لا يمكن الدخول إليها إلا عبر بوابة المستوطنة، وتمّ منع المزارعين الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم هناك. وتشير الوثائق إلى أنه على الحافة الشرقية للجبل الكبير يقف مقام الشيخ بلال بن رباح، الذي كان يستقبل في السابق الحجاج من قرى دير الحطب وسالم وعزموط وروجيب وعورتا، وكذلك من مدينة نابلس التي تقع عند سفح الجبل.

 

أما الخليل، فيذكرها الإسرائيليون في العديد من الأساطير الدينية، فيذكرون أن "حلم يعقوب كان في بيت إيل (البيرة حالياً في فلسطين)، ودُفن الأجداد والأمهات في الخليل"، ويذكرون أن "مملكة الملك داود بنيت في تلال الخليل".

 

هذا بالإضافة إلى العديد من القصص التوراتية التي تشير إلى بيت لحم، الخليل، نابلس، البيرة وغيرها.

 

الأهداف المرحلية: تهويد ومناطق عازلة

منذ حرب عام 1967 التي انتصرت فيها "إسرائيل" انتقلت أراضي الضفة الغربية من السيطرة الأردنية إلى السيطرة الإسرائيلية، فبدأ بناء المستوطنات في تلك المناطق، والتي لم تتوقّف بالرغم من توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 التي منحت السلطة الفلسطينية السيطرة على الضفة، وأقرّت تلك المناطق كجزء من الدولة الفلسطينية الموعودة.

 

ومنذ بدء الحرب في غزة عام 2023، سارت عمليات الترحيل القسري للفلسطينيين وإنشاء المستوطنات غير الشرعية بسرعة قياسية، حيث سيطرت "إسرائيل" على مئات الهكتارات من الأراضي في الضفة الغربية المحتلة.

 

وكان وزير المالية اليميني المتطرّف بتسلئيل سموتريتش، والذي مُنِح صلاحيات موسّعة فيما يتصل بإدارة "إسرائيل" للأراضي المحتلة في ظل الائتلاف الحاكم الذي يرأسه بنيامين نتنياهو، قد عرض خططه للضفة الغربية (يهودا والسامرة) في مؤتمر لحزبه "الصهيونية الدينية" القومي المتطرّف خلال شهر حزيران/يونيو الماضي، فقال "جئنا لاستيطان الأرض وبنائها ومنع تقسيمها ومنع إقامة دولة فلسطينية".

 

وتعهّد "بتغيير الخريطة بشكل كبير" من خلال المطالبة بمزيد من أراضي الضفة الغربية أكثر من أي وقت مضى كأراضي دولة، كما وعد بتوسيع إنشاء البؤر الاستيطانية الزراعية، التي استخدمها المستوطنون المتشدّدون لتوسيع سيطرتهم على المناطق الريفية، والقضاء على البناء الفلسطيني.

 

وتقول الأمم المتحدة ومعها العديد من المنظّمات التي تراقب انتشار المستوطنات الإسرائيلية إن حجم الأراضي المصادرة منذ حرب غزة هو الأكبر منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993، وإنّ "عام 2024 يمثّل الذروة في إعلانات ضمّ الأراضي الفلسطينية وفي بناء المستوطنات غير القانونية"، وإنّ ذلك الضمّ والقضم الذي يقوم به الإسرائيليون يقضي على أي آمال بقيام دولة فلسطينية.

 

بكل الأحوال، الأكيد أنّ الهدف الإسرائيلي النهائي هو ضمّ كامل الأراضي الفلسطينية ومنع قيام دولة فلسطينية، وإقامة ما يسمّى "مملكة إسرائيل الكبرى".

 

لكن يبدو واضحاً من متابعة خريطة ضم الأراضي والاستيطان التي يقوم بها الإسرائيليون، أن الهدف المرحلي الذي يعتمده الاحتلال حالياً هو إقامة منطقة عازلة بين الضفة الغربية والأردن بحيث يُمنع أيّ تواصل بين الفلسطينيين والأراضي الأردنية.

 

جغرافياً، تبدو عمليات الاستيلاء على الأراضي هذا العام متجاورة، حيث ربطت بين مستوطنتين قائمتين بالفعل لإنشاء كتلة واحدة بالقرب من الحدود مع الأردن، وذلك لمنع ما يسمّيه الإسرائيلي تهريب السلاح إلى الضفة، ولمنع أي عمق استراتيجي للفلسطينيين يسمح لهم بتأسيس دولة في المستقبل.