تشكّل انتخابات البرلمان الأوروبي هاجساً كبيراً لبيروقراطيي
الاتحاد الأوروبي في بروكسل بسبب تصاعد اليمين في القارة وبين الناخبين الذين يقدّرون
بـ350 مليون شخص في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، والذين يصوتون لممثليهم المباشرين
في البرلمان الأوروبي، وحيث تطغى الهجرة والسياسات الخضراء والاقتصاد وحرب أوكرانيا
على خطابات الكتل المختلفة.
نجح اليمين في أوروبا في "أمننة" القضايا المختلفة،
وخصوصاً الهجرة والسياسات البيئية، إذ يتفق أحزاب اليمين الأوروبي على هذه القضايا،
فيما يتباينون بشأن الموقف من الحرب في أوكرانيا، وخصوصاً الموقف من الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين والعلاقة بين ضفتي الأطلسي ومع حلف الناتو.
ماذا تعني الأمننة؟
"الأمننة"
كمصطلح متداول في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، يعني قيام فاعلين سياسيين في
الدولة (سواء في السلطة أو خارجها) بتحويل مواضيع اجتماعية أو اقتصادية غير أمنية إلى
مسائل أمنية. بمعنى آخر، هي كناية عن عملية تسييس القضايا وتضخيم خطرها وتصويرها كتهديد
للأمن القومي.
هذه القضايا قد لا تمثّل بالضرورة قضايا أساسية
لبقاء الدولة، بل ربما تمثّل قضايا متعلقة بمشكلة تمسّ الأفراد أو قد تتطور لتتضمن قضايا تشكّل قلقًا
للجماعات، كتضخيم خطر الهجرة على الهوية الاجتماعية أو الخصوصية الثقافية في أوروبا،
أو ما يقول عنه الجمهور من أن الهجرة هدفها تغيير وجه أوروبا الحضاري خلال جيل أو جيلين
من الآن، وذلك عبر فرض تغييرات ديموغرافية.
ولكي تكون "الأمننة" أكثر نجاحًا، يجب أن تجد قبولاً بين الجماهير، وذلك
من خلال استخدام تعابير وخطب شعبوية تخاطب الغرائز وتحوّل القضية إلى شعور بالتهديد
الوجودي، بغض النظر إذا كان لبّ المشكلة يشكّل تهديدًا حقيقيًا.
اليمين وأمننة قضايا الهجرة والبيئة
باتت قضية اللجوء في أوروبا، والتي تمّ تحويلها إلى قضية
أمنية، تهدد المجتمعات الأوروبية وتتسبب بارتفاع أسهم اليمين المتطرف بشدّة، وخصوصاً
بعد ارتباط العامل الديني والثقافي بالمهاجرين، وتصوير هؤلاء اللاجئين بأنهم باتوا
يشكّلون تهديدًا أمنيًا وجوديًا للمجتمعات الأوروبية.
أما بالنسبة إلى السياسات البيئية، فقد استطاع اليمين أن
يحوّلها أيضاً إلى قضية تمسّ أمن المواطن الأوروبي وأمنه الغذائي. وتستفيد الأحزاب
اليمينية من قلق المواطنين من تكلفة الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر وتوجسهم من السياسات
المطبقة ضمن رؤية الاتحاد الأوروبي لخفض الانبعاثات بنسبة 90% بحلول 2040، إضافة إلى
احتجاجات المزارعين الذين أغلقوا الطرقات بجراراتهم متهمين قوانين الاتحاد الأوروبي
والبيروقراطية "غير المنتخبة والمنفصلة عن الواقع" في الاتحاد بالتسبب بخسارة أعمالهم وتضررها.
اليمين والتباين حول أوكرانيا
بشكل عام، ينظر اليمين إلى الإنفاق الدفاعي الكبير باعتباره
خسارة للاقتصاد، وأن من الأفضل الاهتمام بتعزيز الاقتصاد والرفاهية بدلاً من دفع مبالغ
طائلة للإنفاق على تعزيز قدرات حلف الناتو، لكن حرب أوكرانيا أدخلت اليمين الأوروبي
في انقسامات تجعله غير قادر على إدارة حركة موحدة، حتى لو كسب مقاعد إضافية في البرلمان
الأوروبي، الأمر الذي سيمنحهم صوتاً أكبر في ذلك البرلمان، وفي الاجتماعات الرئيسية
لوزراء الاتحاد الأوروبي، وفي قمم زعماء الاتحاد الأوروبي.
على سبيل المثال لا الحصر، تختلف مواقف رئيس الوزراء المجري
فيكتور أوربان عن مواقف رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، وهي من أنصار العلاقات
بين دول الأطلسي وتقوية حلف الناتو. وقد تعهدت بتقديم مساعدات عسكرية واقتصادية مستمرة
لأوكرانيا، ومثلها الحزب اليميني السويدي الحاكم، فيما يرفض أوربان استمرار الدعم لأوكرانيا
ويطالب بتسوية مع الروس، ومثله حزب التجمع الوطني الفرنسي بزعامة مارين لوبان.
في المحصلة، من الخطأ الاعتقاد أنّ اليمين الأوروبي هو
كتلة واحدة متراصة، وأنه سيتخذ موقفاً موحداً من القضايا المطروحة أوروبياً، ولكن نجاحه
وصعوده يؤشر إلى أن ناخبي الاتحاد الأوروبي لا يؤيدون سياسات حكوماتهم، وخصوصاً في
فرنسا وألمانيا، حيث يعاني الرئيس إيمانويل ماكرون والمستشار أولاف شولتس من تراجع
شعبيتهما.
ويكمن التعقيد في سياسات اليمين في الاتحاد الأوروبي في لجوء أحزاب اليمين الوسط وأحزاب السلطة إلى تقليد خطابات اليمين المتطرف في ما خص الهجرة واللجوء، وذلك للحفاظ على ناخبيهم الذين باتوا ينحازون إلى خطابات التطرف والخوف وأمننة قضايا الهجرة واللجوء باعتبارها قضايا أمن قومي سوف تؤدي إلى تغيير هوية الاتحاد الأوروبي وأمنه المستقبلي. وبناء عليه، سيكون اليمين موحداً وفاعلاً في هذه القضايا، ولكنه سينقسم في التعامل مع قضايا الأمن الحقيقية كالإنفاق الدفاعي وحلف الناتو والموقف من الحرب الأوكرانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق