قال المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان،
إنه قدّم طلبات إلى المحكمة لاستصدار أوامر اعتقال، مؤكداً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي،
نتنياهو، ووزير الأمن، غالانت، يتحمّلان المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية في غزة.
وأضاف أن الأدلة خلصت إلى أن مسؤولين إسرائيليين حرموا،
بصورة ممنهجة، فلسطينيين من أساسيات الحياة، وأن نتنياهو وغالانت متواطئان في التسبب
بالمعاناة وتجويع المدنيين في غزة، والقتل المتعمد.
ومباشرة بعد الإعلان، سارع الأميركيون والإسرائيليون، ومعهم
بعض الأوروبيين، إلى توجيه انتقادات شديدة اللهجة إلى المحكمة الجنائية الدولية. ووصف
بايدن، ومعه وزارة الخارجية الأميركية، القرار بأنه "أمر شائن"، بينما وصف
الإسرائيليون القرار بأنه "وصمة عار تاريخية".
وخلال دفاعهم عن "إسرائيل"، حاجَّ الأميركيون
في أن المحكمة لا يجب أن توازي بين حماس و"مسؤولين منتخَبين ديمقراطياً"،
بحسب زعمهم، وأكدوا، عبر عدد من مسؤوليهم، أن لا سلطة للمحكمة على "إسرائيل"،
كونها ليست عضواً في نظام روما الأساسي، وأن "فلسطين ليست دولة"، ثم ادّعوا
أن على المحكمة أن تلتزم مبدأ "التكامل"، لافتين إلى أن النظام القضائي الإسرائيلي
هو من يجب أن يفصل في أي اتهامات، وليس المحكمة الجنائية الدولية.
وفي تفنيد لتلك المزاعم، يمكن الإشارة إلى الأمور التالية:
1- حصانة "المسؤولين
المنتخَبين ديمقراطياً"
بداية، إن فكرة وجود متهمين "منتخبين" لا تعني
أنهم يتمتعون بحصانات جنائية أمام المحاكم الدولية. وأكد نظام المحكمة الجنائية الدولية
تطبيق هذه المسؤولية على كل الأشخاص من دون تمييز، بسبب الصفة الرسمية، كرئيس دولة
أو حكومة، أو عضو في حكومة أو برلمان، أو ممثل منتخَب، أو موظف حكومي (المادة 27).
ويتضمن نظام روما الأساسي أيضاً نصاً صريحاً وواضحاً بشأن
مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية "للأشخاص الطبيعيين".
ونصّ صراحة على عدم تأثير أي حكم في هذا النظام الأساسي
يتعلق بالمسؤولية الجنائية الفردية في مسؤولية الدول بموجب القانون الدولي (أي أنه
يفصل بين مسؤولية نتنياهو وغالانت ومسؤولية "إسرائيل كدولة" أمام المحاكم
الأخرى، ومنها محكمة العدل الدولية).
2- لا اختصاص للمحكمة
للتحقيق في الجرائم الإسرائيلية في غزة
حدد نظام روما الأساسي حالات ثلاثاً يمكن بموجبها إحالة
قضية على المحكمة، وهي:
أ - الإحالة على المدعي العام للمحكمة من جانب دولة طرف
في اتفاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ويُشترط في هذه الحالة توافر أحد
شرطين على الأقل، هما:
- أن تكون الدولة، التي
وقعت في إقليمها الجريمة، طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة، أو قبلت اختصاص المحكمة
(وهنا هي فلسطين).
- أن تكون الدولة، التي
يكون الشخص المتهم بالجريمة من رعاياها، طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة، أو قبلت
اختصاصها.
ب - الإحالة من مجلس الأمن الدولي على المدعي العام للمحكمة،
بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
ج - للمدعي العام للمحكمة أن يباشر في التحقيق من تلقاء
نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة.
يُشترط في هذه الحالة أن تكون الدولة التي وقعت في إقليمها
الجريمة طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة، أو قبلت اختصاص المحكمة، و/أو أن تكون الدولة
التي يكون الشخص المتهم بالجريمة من رعاياها، طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة، أو
قبلت اختصاصها.
تأكيداً لذلك، وبعد الحرب الإسرائيلية على غزة، تلقى المدعي
العام إحالة من خمس دول - هي جنوب أفريقيا، بنغلاديش، بوليفيا، جزر القمر، وجيبوتي
- بشأن الوضع في دولة فلسطين.
وقال كريم خان: "بتلقي الإحالة، يؤكد مكتبي أنه يُجري
حالياً تحقيقاً في الوضع في دولة فلسطين". وأكد أنه، وفقاً لنظام روما الأساسي،
يتمتع مكتبه بالولاية القضائية على الجرائم المرتكبة في أراضي دولة طرف (فلسطين)، وفيما
يتعلق بمواطني الدول الأطراف.
3 - الادعاء
أن فلسطين ليست دولة ولا يحق لها التقاضي في المحكمة
بعد أن قدّمت فلسطين طلبَ الانضمام إلى نظام روما الأساسي،
أوضح المدعي العام، بصورة صريحة، أنه كي تصبح فلسطين "دولة"، وكي تستطيع
الانضمام إلى النظام الأساسي للمحكمة، يجب الاعتراف بها أولاً "دولةً غير عضو"
من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وبناءً عليه، صوّتت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على
القرار 67/19، ولاسيما فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية. وتم اعتماد القرار بأغلبية
138 صوتاً في مقابل 9 أصوات، وامتناع 41 عن التصويت. وهكذا، صدر القرار الذي يتيح لفلسطين،
كدولة، أن تنضم إلى نظام روما الأساسي، وأن تصبح دولة طرفاً فيه، وأن يطبَّق نظام المحكمة
في الأراضي الفلسطينية التي حددتها المحكمة بأنها "الضفة الغربية وغزة والقدس
الشرقية".
وهكذا، تم قبول عضوية فلسطين دولةً عام 2015، على أن يسري
اختصاص المحكمة على الأراضي الفلسطينية بدءاً من 1 نيسان/أبريل 2015. ومباشرة بعد انضمام
فلسطين، كدولة طرف، أخطر الأمين العام للأمم المتحدة الدول الأطراف الأخرى بانضمامها.
4 - المحكمة
أخلّت بنظام "التكامل" مع "القضاء الإسرائيلي"
يحدَّد اختصاص المحكمة بأنه "مكمل" للولايات
القضائية الجنائية الوطنية، وليس بديلاً منها، بحيث تمارس اختصاصها عندما تكون الأنظمة
الوطنية "غير قادرة" أو "غير راغبة" في التحقيق ومحاكمة
"الأشخاص الطبيعيين" من مرتكبي الجرائم الدولية الأشد خطورة، بمقتضى القانون
الدولي.
وبالطبع، تنبّه واضعو النظام الأساسي إلى أن الدول قد تعمد
إلى استخدام ذريعة تقديم المتهمين إلى النظام القضائي الوطني في سبيل تحقيق الإفلات
من العقاب. لذلك، حدّد النظام أن المحكمة تبقى صاحبة اختصاص في عدة حالات، منها ما
يلي:
أ – عندما تكون القضية موضوعاً لشكوى أو محاكمة من قبل
الدولة المختصة، إلا أن هذه الدولة ليس لديها الإرادة التامة أو القدرة على وجه التأكيد،
لمباشرة التحقيق أو إجراء المحاكمة.
ب - حين يظهر أن هناك عدم الرغبة لدى الدولة المعنية،
ويتجلى ذلك في أن يكون حدث تأخير لا مبرر له في الإجراءات، على نحو يتعارض في هذه الظروف
مع نية تقديم الشخص المعني إلى العدالة، أو لم تباشر الإجراءات، أو لا تجري مباشرتها
بصورة مستقلة أو نزيهة، أو بوشرت أو تجري مباشرتها على نحو لا يتفق في هذه الظروف مع
نية تقديم الشخص المعني إلى العدالة.
ج- في حال كانت تلك المحاكمة الداخلية حصلت صورياً من أجل:
- حماية الشخص المعني
من المسؤولية الجنائية عن جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، أو
- أن المحاكمة لم تجرِ
بصورة تتسم بالاستقلال أو النزاهة، وفقاً لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون
الدولي، أو جرت في ظروف معينة على نحو لا يتسق مع النية في تقديم الشخص المعني إلى
العدالة.
وبالتالي، فإن المحكمة تخلّ بمبدأ التكامل، لا يمكن الاخذ
به، بدليل عدم بدء أي محاكمات داخل "إسرائيل" في الاتهامات المرفوعة من المحكمة،
بالإضافة إلى المحاكمات الصورية السابقة لمسؤولي "الجيش"الإسرائيلي بشأن
ارتكاباتهم ضد الفلسطينيين، و"عدم قدرة" القضاء الإسرائيلي على محاكمة نتنياهو
المتهم بقضايا فساد داخلي، فكيف يمكن للقضاء نفسه القدرة على محاسبة نتنياهو وغيره
على الجرائم الدولية المرتكبة في غزة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق