2024/05/28

القرار الملتبس لمحكمة العدل الدولية و"محرقة الخِيام" في رفح

قُتل وأُصيب عشرات الفلسطينيين في قصف إسرائيلي لخيام النازحين قرب مقر الاونروا في رفح، جنوبي قطاع غزة، في منطقة كانت "إسرائيل" أعلنت أنها منطقة آمنة، بينما ادعى "الجيش" الإسرائيلي، في بيان، "أنه تم تنفيذ الضربة ضد أهداف مشروعة بموجب القانون الدولي، من خلال استخدام ذخائر محددة، وعلى أساس معلومات استخبارية دقيقة، تشير إلى استخدام حماس للمنطقة".

 

وتتزامن تلك المجزرة المروّعة لخيم النازحين مع إعلان محكمة العدل الدولية قرارها، ومفاده أنه يتعين على "إسرائيل" أن توقف "على الفور" هجومها العسكري أو أي أعمال أخرى في رفح، مشيرة إلى "الخطر المباشر" على الشعب الفلسطيني.

 

كما أمرت المحكمة "إسرائيل" بفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية للقطاع، إلى جانب ضمان وصول أي لجنة تحقيق أو تقصي حقائق بشأن تهمة الإبادة الجماعية، على أن تقدّم "إسرائيل" إلى المحكمة، خلال شهر، تقريراً عن الخطوات التي ستتخذها.

 

وعلى الرغم من أن القرار، في الإجمال، يُعَدّ انتصاراً للقانون الدولي وآلياته القضائية، فإن الاطلاع على نص القرار الذي أصدرته محكمة العدل الدولية، يشير الى التباس، يبدو مقصوداً، في النص، شبيه بالالتباس الذي ورد في نص القرار 242، وهو التباس كان مقصوداً حينها، بحيث اتفق عليه المندوبان البريطاني والأميركي في الأمم المتحدة، عندما صدر القرار بلغة ملتبسة استغلتها "إسرائيل" لتبرير عدم انسحابها من الأراضي العربية المحتلة في حزيران/يونيو 1967، بحيث أُشير في الصيغة الإنكليزية إلى "انسحاب إسرائيل من أراضٍ"، بينما تضمّن النص الفرنسي عبارة "انسحاب إسرائيل من الأراضي".

 

وفي السياق نفسه، تضمّن قرار محكمة العدل الدولية الأخير نصاً ملتبساً، استغلته "إسرائيل" وداعموها ليدّعوا أن النص لا يمنعها من استمرار عملياتها في رفح، وذلك على الشكل التالي:

 

في الفقرة الـ 50 من نص القرار، تقول المحكمة حرفياً: "ترى المحكمة أنه، وفقاً لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، يجب على إسرائيل أن توقف فوراً هجومها العسكري، وأي عمل آخر في محافظة رفح، قد يفرض على المجموعة الفلسطينية في غزة ظروفاً معيشية يمكن أن تؤدي إلى تدميرها المادي، كلياً أو جزئياً".

 

1- التفسير القانوني الداعم لـ"إسرائيل"

بحسب تفسير القانونيين الداعمين لـ"إسرائيل"، فإن النص لم يطلب إلى "إسرائيل" وقف جميع العمليات العسكرية في رفح، بل طلب فقط وقف العمليات العسكرية التي تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، والتي يمكن أن تتسبب بظروف يمكن أن تؤدي الى تدمير "الجماعة الفلسطينية"، كلياً أو جزئياً.

 

ويتذرع هؤلاء بمقارنة هذا النص بالنص الذي صدر عن المحكمة نفسها في قضية "أوكرانيا ضد روسيا"، بحيث صدر ذلك النص أكثر وضوحاً وشمولاً، عبر قوله: "يجب على الاتحاد الروسي أن يعلق فوراً العمليات العسكرية، التي بدأها في 24 فبراير 2022 في أراضي أوكرانيا".

 

وفي تعليقهم على القرار، أيد بعض القضاة في المحكمة هذا التفسير، مؤكدين أن القرار يطلب إلى "إسرائيل" وقف العمليات التي تؤدي إلى إهلاك "الجماعة الفلسطينية"، كلياً أو جزئياً، وليس كل العمليات. وقال هؤلاء، في تعقيبهم على القرار، إن العبارة "قد يفرض على المجموعة الفلسطينية في غزة ظروفاً معيشية يمكن أن تؤدي إلى تدميرها المادي، كلياً أو جزئياً"، هي عبارة تفسيرية للجزء الاول والجزء الثاني من النص، وليست مرتبطة حصراً بالجزء الثاني (أي عمل).

 

2- التفسير القانوني المضاد

هو التفسير الذي يفصل الفقرتين، إحداهما عن الأخرى، ويرى أن المحكمة أمرت "إسرائيل" بـ"وقف هجومها العسكري"، بالإضافة إلى "الامتناع عن أي عمل في رفح قد يؤدي الى إهلاك الجماعة الفلسطينية، كلياً أو جزئياً"، بمعنى أن المحكمة أرادت توسيع نطاق "أي عمل" (بحيث إنها لم تقم بتعريفه أو تحديده). ولعله يمكن أن يكون عملاً عسكرياً، أو الحصار، أو منع وصول المساعدات، أو التسبب بظروف إنسانية قد تؤدي إلى إهلاك الفلسطينيين... إلخ.

 

ويشير بعض القضاة الآخرين، في تفسيرهم للقرار، إلى أن المحكمة أمرت "إسرائيل" بـ"وقف عملياتها الهجومية في رفح"، وأن الإشارة إلى كلمة "الهجومية" هو لـ"إعطاء حق لإسرائيل في الدفاع" في حال تعرضت لهجوم، وذلك ضمن مبادئ القانون الدولي الإنساني وقواعدها، واحترام الالتزامات المفروضة على الدول بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

 

3- مواقف الدول والاستغلال الإسرائيلي

يبدو، من مراجعة مواقف الدول، أن الأغلبية العظمى من الدول اعتمدت التفسير الثاني ورحّبت به. في المقابل، قامت "إسرائيل" باستخدام نص القرار الملتبس، واستعلت التفسيرين المرتبطين به، لتبرير العدوان وإبادة الفلسطينيين في غزة.

 

في بياناتهم الرسمية، استند الإسرائيليون إلى ما يعطيهم إياه التفسير الثاني للادعاء أنهم يقومون بـ"عملية دفاعية عادلة"، وأنهم سيواصلون السماح بدخول المساعدات لقطاع غزة "على نحو يتفق مع القانون".

 

لكنهم، في المقابل، استخدموا التفسير الأول لتبرير مواصلة هجومهم العسكري على رفح، مؤكدين أن الحملة العسكرية الإسرائيلية في مدينة رفح لم ولن "تؤدي إلى هلاك السكان المدنيين الفلسطينيين". وفي بيان آخر، تمّ الادعاء أن "إسرائيل لا تعتزم ولن تنفذ عمليات عسكرية في منطقة رفح تؤدي إلى ظروف معيشية يمكن أن تتسبب بتدمير السكان المدنيين الفلسطينيين، سواء في شكل كامل او جزئي".

  

2024/05/22

اتهام نتنياهو وغالانت: تفنيد قانوني للادعاءات الأميركية

قال المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، إنه قدّم طلبات إلى المحكمة لاستصدار أوامر اعتقال، مؤكداً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، ووزير الأمن، غالانت، يتحمّلان المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية في غزة.

 

وأضاف أن الأدلة خلصت إلى أن مسؤولين إسرائيليين حرموا، بصورة ممنهجة، فلسطينيين من أساسيات الحياة، وأن نتنياهو وغالانت متواطئان في التسبب بالمعاناة وتجويع المدنيين في غزة، والقتل المتعمد.

 

ومباشرة بعد الإعلان، سارع الأميركيون والإسرائيليون، ومعهم بعض الأوروبيين، إلى توجيه انتقادات شديدة اللهجة إلى المحكمة الجنائية الدولية. ووصف بايدن، ومعه وزارة الخارجية الأميركية، القرار بأنه "أمر شائن"، بينما وصف الإسرائيليون القرار بأنه "وصمة عار تاريخية".

 

وخلال دفاعهم عن "إسرائيل"، حاجَّ الأميركيون في أن المحكمة لا يجب أن توازي بين حماس و"مسؤولين منتخَبين ديمقراطياً"، بحسب زعمهم، وأكدوا، عبر عدد من مسؤوليهم، أن لا سلطة للمحكمة على "إسرائيل"، كونها ليست عضواً في نظام روما الأساسي، وأن "فلسطين ليست دولة"، ثم ادّعوا أن على المحكمة أن تلتزم مبدأ "التكامل"، لافتين إلى أن النظام القضائي الإسرائيلي هو من يجب أن يفصل في أي اتهامات، وليس المحكمة الجنائية الدولية.

 

وفي تفنيد لتلك المزاعم، يمكن الإشارة إلى الأمور التالية:

 

1- حصانة "المسؤولين المنتخَبين ديمقراطياً"

بداية، إن فكرة وجود متهمين "منتخبين" لا تعني أنهم يتمتعون بحصانات جنائية أمام المحاكم الدولية. وأكد نظام المحكمة الجنائية الدولية تطبيق هذه المسؤولية على كل الأشخاص من دون تمييز، بسبب الصفة الرسمية، كرئيس دولة أو حكومة، أو عضو في حكومة أو برلمان، أو ممثل منتخَب، أو موظف حكومي (المادة 27).

 

ويتضمن نظام روما الأساسي أيضاً نصاً صريحاً وواضحاً بشأن مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية "للأشخاص الطبيعيين".

 

ونصّ صراحة على عدم تأثير أي حكم في هذا النظام الأساسي يتعلق بالمسؤولية الجنائية الفردية في مسؤولية الدول بموجب القانون الدولي (أي أنه يفصل بين مسؤولية نتنياهو وغالانت ومسؤولية "إسرائيل كدولة" أمام المحاكم الأخرى، ومنها محكمة العدل الدولية).

 

2- لا اختصاص للمحكمة للتحقيق في الجرائم الإسرائيلية في غزة

حدد نظام روما الأساسي حالات ثلاثاً يمكن بموجبها إحالة قضية على المحكمة، وهي:

 

أ‌ - الإحالة على المدعي العام للمحكمة من جانب دولة طرف في اتفاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ويُشترط في هذه الحالة توافر أحد شرطين على الأقل، هما:

 

- أن تكون الدولة، التي وقعت في إقليمها الجريمة، طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة، أو قبلت اختصاص المحكمة (وهنا هي فلسطين).

 

- أن تكون الدولة، التي يكون الشخص المتهم بالجريمة من رعاياها، طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة، أو قبلت اختصاصها.

 

ب - الإحالة من مجلس الأمن الدولي على المدعي العام للمحكمة، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

 

ج - للمدعي العام للمحكمة أن يباشر في التحقيق من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة.

 

يُشترط في هذه الحالة أن تكون الدولة التي وقعت في إقليمها الجريمة طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة، أو قبلت اختصاص المحكمة، و/أو أن تكون الدولة التي يكون الشخص المتهم بالجريمة من رعاياها، طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة، أو قبلت اختصاصها.

 

تأكيداً لذلك، وبعد الحرب الإسرائيلية على غزة، تلقى المدعي العام إحالة من خمس دول - هي جنوب أفريقيا، بنغلاديش، بوليفيا، جزر القمر، وجيبوتي - بشأن الوضع في دولة فلسطين.

 

وقال كريم خان: "بتلقي الإحالة، يؤكد مكتبي أنه يُجري حالياً تحقيقاً في الوضع في دولة فلسطين". وأكد أنه، وفقاً لنظام روما الأساسي، يتمتع مكتبه بالولاية القضائية على الجرائم المرتكبة في أراضي دولة طرف (فلسطين)، وفيما يتعلق بمواطني الدول الأطراف.

 

3 - الادعاء أن فلسطين ليست دولة ولا يحق لها التقاضي في المحكمة

بعد أن قدّمت فلسطين طلبَ الانضمام إلى نظام روما الأساسي، أوضح المدعي العام، بصورة صريحة، أنه كي تصبح فلسطين "دولة"، وكي تستطيع الانضمام إلى النظام الأساسي للمحكمة، يجب الاعتراف بها أولاً "دولةً غير عضو" من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة.

 

وبناءً عليه، صوّتت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على القرار 67/19، ولاسيما فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية. وتم اعتماد القرار بأغلبية 138 صوتاً في مقابل 9 أصوات، وامتناع 41 عن التصويت. وهكذا، صدر القرار الذي يتيح لفلسطين، كدولة، أن تنضم إلى نظام روما الأساسي، وأن تصبح دولة طرفاً فيه، وأن يطبَّق نظام المحكمة في الأراضي الفلسطينية التي حددتها المحكمة بأنها "الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية".

 

وهكذا، تم قبول عضوية فلسطين دولةً عام 2015، على أن يسري اختصاص المحكمة على الأراضي الفلسطينية بدءاً من 1 نيسان/أبريل 2015. ومباشرة بعد انضمام فلسطين، كدولة طرف، أخطر الأمين العام للأمم المتحدة الدول الأطراف الأخرى بانضمامها.

 

4 - المحكمة أخلّت بنظام "التكامل" مع "القضاء الإسرائيلي"

يحدَّد اختصاص المحكمة بأنه "مكمل" للولايات القضائية الجنائية الوطنية، وليس بديلاً منها، بحيث تمارس اختصاصها عندما تكون الأنظمة الوطنية "غير قادرة" أو "غير راغبة" في التحقيق ومحاكمة "الأشخاص الطبيعيين" من مرتكبي الجرائم الدولية الأشد خطورة، بمقتضى القانون الدولي.

 

وبالطبع، تنبّه واضعو النظام الأساسي إلى أن الدول قد تعمد إلى استخدام ذريعة تقديم المتهمين إلى النظام القضائي الوطني في سبيل تحقيق الإفلات من العقاب. لذلك، حدّد النظام أن المحكمة تبقى صاحبة اختصاص في عدة حالات، منها ما يلي:

 

أ – عندما تكون القضية موضوعاً لشكوى أو محاكمة من قبل الدولة المختصة، إلا أن هذه الدولة ليس لديها الإرادة التامة أو القدرة على وجه التأكيد، لمباشرة التحقيق أو إجراء المحاكمة.

 

ب‌ - حين يظهر أن هناك عدم الرغبة لدى الدولة المعنية، ويتجلى ذلك في أن يكون حدث تأخير لا مبرر له في الإجراءات، على نحو يتعارض في هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني إلى العدالة، أو لم تباشر الإجراءات، أو لا تجري مباشرتها بصورة مستقلة أو نزيهة، أو بوشرت أو تجري مباشرتها على نحو لا يتفق في هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني إلى العدالة.

 

ج- في حال كانت تلك المحاكمة الداخلية حصلت صورياً من أجل:

 

- حماية الشخص المعني من المسؤولية الجنائية عن جرائم تدخل في اختصاص المحكمة، أو

 

- أن المحاكمة لم تجرِ بصورة تتسم بالاستقلال أو النزاهة، وفقاً لأصول المحاكمات المعترف بها بموجب القانون الدولي، أو جرت في ظروف معينة على نحو لا يتسق مع النية في تقديم الشخص المعني إلى العدالة.

 

وبالتالي، فإن المحكمة تخلّ بمبدأ التكامل، لا يمكن الاخذ به، بدليل عدم بدء أي محاكمات داخل "إسرائيل" في الاتهامات المرفوعة من المحكمة، بالإضافة إلى المحاكمات الصورية السابقة لمسؤولي "الجيش"الإسرائيلي بشأن ارتكاباتهم ضد الفلسطينيين، و"عدم قدرة" القضاء الإسرائيلي على محاكمة نتنياهو المتهم بقضايا فساد داخلي، فكيف يمكن للقضاء نفسه القدرة على محاسبة نتنياهو وغيره على الجرائم الدولية المرتكبة في غزة؟

 

2024/05/18

الاستثمار الهندي في إيران: "طريق التوابل" في مقابل "طريق الحرير"؟

في خطوة تاريخية، وقّعت إيران والهند اتفاقية طويلة الأجل، مدتها 10 أعوام، لتشغيل ميناء تشابهار الاستراتيجي في إيران، والذي تهدف الهند من خلاله إلى تعزيز مكانتها في سلسلة التوريد العالمية، ولمنافسة طريق الحرير الصيني، الذي يعتمد ميناء "جوادر" الباكستاني محطة من محطاته الرئيسة.

 

يرجع التعاون بين إيران والهند، في هذا الميناء الاستراتيجي، إلى عام 2003، حين تمّ الاتفاق على المشروع خلال زيارة الرئيس الإيراني آنذاك، محمد خاتمي، للهند، لكن المشروع تأخر بسبب بعض العراقيل الفنية واللوجستية، وبسبب العقوبات الأممية التي فُرضت على إيران فيما بعد.

 

وفي عام 2016، بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الـ(5+1)، ورفع العقوبات الأممية عن إيران، تمّ توقيع اتفاقية بين الهند وإيران وأفغانستان لتطوير جزء من هذا الميناء، لبناء ممر للنقل والتجارة الهنديين عبر ميناء تشابهار وإيران إلى أفغانستان. وأعلن رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، خطة لاستثمار 500 مليون دولار في المشروع.

 

وبعد انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة فرض العقوبات الأميركية، قام الأميركيون بتهديد الشركات الأجنبية العاملة في إيران بالعقوبات، وإعطائها مهلة للانسحاب، لكن الهند استطاعت أن تحصل على إعفاء الميناء من العقوبات.

 

لماذا يتمتع موقع تشابهار بأهمية استراتيجية بالنسبة إلى الهند؟

أ‌- الأهمية الجغرافية:

 

تشابهار، هي كلمة فارسية تعني "الينابيع الأربعة"، وصفها الباحث الإيراني البيروني في القرن العاشر بأنها نقطة الدخول لشبه القارة الهندية. ويوصف المرفأ، من جانب خبراء الجيوبوليتيك، بأنه "البوابة الذهبية لدول منطقة المحيط الهندي إلى آسيا الوسطى".

 

بالإضافة إلى مياهه العميقة، التي تتيح له استقبال السفن الكبرى، فإن الميناء يُطل مباشرة على المحيط الهندي، وتستفيد منه الهند بسبب قربه الجغرافي، بحيث قال وزير النقل الهندي، عام 2016، إن "المسافة بين كاندلا (ميناء في ولاية غوجارات) وميناء تشابهار أقل من المسافة بين نيودلهي ومومباي".

 

ب‌- بوابة الهند إلى آسيا الوسطى

 

- استخدمت الهند هذا الممر من أجل عبور المنتوجات الهندية إلى أفغانستان، من خلال تجنب الطريق البري عبر باكستان. فالسلع تنتقل من ميناء تشابهار، عبر شبكة الطرق، إلى زرنج في أفغانستان، ومنها إلى أربع مدن رئيسة: هيرات وقندهار وكابول ومزار الشريف.

 

- يرتبط هذا الميناء بممر "شمال – جنوب" (الذي يربط روسيا والدول الأوراسية بمنطقة الخليج). وهكذا، تستطيع الهند وروسيا تفعيل العلاقات التجارية بينهما، وخصوصاً في تجارة الطاقة التي توسعت بصورة كبيرة بعد فرض العقوبات الغربية على روسيا، وقطع الأوروبيين علاقاتهم بروسيا، الأمر الذي دفع الهند إلى استيراد الغاز الروسي وإعادة بيعه للأوروبيين.

 

- بمجرد تشغيل الميناء بكامل طاقته، فإنه سيتيح للهند إمكان الوصول المباشر إلى دول آسيا الوسطى الغنية بالموارد، مثل تركمانستان وكازاخستان، وتبادل السلع معها، ذهاباً وإياباً.

 

ج- منافسة طريق الحرير الصيني

 

- وقعت الصين مع باكستان اتفاقاً لتشغيل ميناء "جوادر" لمدة 40 عاماً، كجزء من طريق الحرير الصيني. وبالاتفاق مع إيران، فإن الهند تستطيع أن تحدّ قدرة منافستها باكستان على أن تكون مقراً للتجارة البينية بين المحيط الهندي وآسيا الوسطى، كما يعطي الهند القدرة على منافسة الصين في المنطقة.

 

- يتزايد القلق الهندي من الدور الصيني المتصاعد في آسيا، وتَعُدّ الهند أن هذا الدور يشكّل ضرراً لمصالحها في المنطقة. لذلك، ترى الهند أن توسعها في الشرق الأوسط يُعَدّ عنصراً مهماً في مواجهة خطط الصين لمشروع الحزام والطريق.

 

- من ضمن الخطط الهندية لمنافسة الصين، والتي تدعمها الولايات المتحدة بقوة، يبرز الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، والذي أعلنه الأميركيون والأوروبيون، كونه حدثاً كبيراً سيؤدي إلى دمج "إسرائيل" والدول العربية الخليجية، عبر مشروع تنموي استثماري، وسيشكّل فرصة لدول الخليج في عدم الاعتماد على طرق المواصلات الصينية، التي تهدف إلى ربط آسيا بأوروبا عبر الدول الخليجية و"إسرائيل".

 

بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، وبعد تراجع رغبة الدول العربية الخليجية في التطبيع، يبدو الاتفاق الهندي الإيراني، بالنسبة إلى الهند، الطريق الأمثل للهند لتحقيق الهدف في أن تصبح مركزاً عالمياً للتجارة العالمية (من جنوبي شرقي آسيا إلى الشرق الأوسط وأوروبا). 

2024/05/11

الأميركيون والمحكمة الجنائية الدولية: هل يتحول الجفاء الى عداوة؟

بعدما انتشرت أخبار تفيد بأن المحكمة الجنائية الدولية تتجه إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، من بينهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت رئيس الأركان هرتسي هاليفي، صدرت تحذيرات أميركية، وخصوصاً من الكونغرس الأميركي، بأن إصدار مثل تلك القرارات سوف يعرّض المحكمة وقضاتها لعقوبات أميركية.

 

 وحذّر رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون من أن خطورة "اكتساب المحكمة سلطة غير مسبوقة قد تؤدي مستقبلاً إلى إصدار قرارات مثيلة بشأن سياسيين وعسكريين أميركيين".

 

عملياً، التهديدات والتحذيرات الأميركية للمحكمة وقضاتها ليست وليدة الساعة. ومنذ تأسيسها، تتعامل الولايات المتحدة بجفاء مع المحكمة، وتحاول أن تمنعها من التقدم في مسار تحقيق العدالة الدولية، خشية أن تصل يوماً إلى الأميركيين.

 

 ونستعرض في ما يلي مسار التعامل الأميركي مع المحكمة منذ تأسيسها:

 

1المعارضة الأميركية لتأسيس المحكمة:

بدأت المساعي الفعلية والأساسية لإنشاء "المحكمة الجنائية الدولية" عام 1993، بالرغم من المساهمات الفكرية والقانونية التي طالبت بها قبل ذلك بكثير. وبناء على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 50\46، الصادر بتاريخ 11 كانون الأول/ديسمبر 1995، أُنشئت اللجنة التحضيرية لمناقشة مشروع النظام الأساسي الذي أعدّته لجنة القانون الدولي، ولإعداد نصّ موحد ومقبول على نطاق واسع لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية.

 

وبعد مسيرة طويلة من المؤتمرات واللجان والنقاشات التي تهدف إلى تأسيس محكمة من هذا النوع امتدت إلى أكثر من قرن من الزمن والاستناد إلى تجارب المحاكم الدولية السابقة، وانقسام دولي وقانوني بين تيار مؤيد وتيار معارض لتأسيس المحكمة تزعمته الولايات المتحدة الأميركية، تمّ الاتفاق على تأسيس هذه المحكمة في تموز/يوليو 1998 عندما تبنى المؤتمر الدبلوماسي الذي انعقد في روما برعاية الأمم المتحدة، في الفترة الممتدة من 15 حزيران/يونيو إلى 17 تموز/يوليو 1998، النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بأغلبية ساحقة، إذ صوَّت إلى جانبه 120 دولة. وقد صدقت عليه 60 دولة، وهو العدد اللازم لإنشاء المحكمة بتاريخ 11 نيسان/أبريل 2002، وأصبحت الولاية القضائية لنظام روما الأساسي نافذة في الأول من تموز/يوليو 2002.

 

منذ البداية، كانت الولايات المتحدة الأميركية الأكثر تشدداً في رفض المحكمة والتحايل على نظام روما الأساسي. هذا التشدد ساهم في إدخال مبدأ "التكامل" وتقليص صلاحيات المحكمة في الادعاء، وغير ذلك من الإجراءات التي أدخلت للحصول على موافقة الأميركيين على إنشاء تلك المحكمة. وبالفعل، وقّعت إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون الإدارة على نظام روما الأساسي، لكن تمّ سحب ذلك التوقيع في ما بعد على عهد جورج بوش الابن.

 

2القوانين الأميركية ضدّ عمل المحكمة

مباشرة بعد حرب أفغانستان، قامت الولايات المتحدة بوضع مجموعة من الأدوات القانونية والسياسية المعقدة، بهدف ضمان الحؤول دون خضوع أي من رعاياها، وكذلك أي شخص يعمل تحت قيادة أميركية، أياً كانت جنسيته، لعملية تسليم أو مقاضاة أو محاكمة من قبل المحكمة الجنائية الدولية.

 

اعتمد الكونغرس الأميركي القرار رقم HR4775 الذي أصبح نافذاً بتاريخ 2 آب/أغسطس 2002 بعنوان "قانون حماية أعضاء القوات المسلحة الأميركية (ASPA)"، والذي يؤكد أنه "لا يجوز لعهد دولي أن يفرض أي التزامات على دولة ليست طرفاً فيه". يتضمن هذا القانون أحكاماً تتناول إجراءات أخرى لمنع التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية.

 

وبالرغم من ذلك القانون، فإن الولايات المتحدة ظلَّت بحاجة إلى التأكد من أن المحكمة لن تطال أياً من الرعايا الأميركيين الموجودين خارج الأراضي الأميركية، سواء كانوا من المدنيين أو الدبلوماسيين أو العسكريين.

 

وهكذا تمّ التفاوض على قرار صادر عن مجلس الأمن رقم 1422/2002 للحدّ من اختصاص المحكمة، بحيث لا تنطبق على الأميركيين، وبحيث تمتنع المحكمة الجنائية الدولية ولمدة سنة، بدءاً من 1/8/2002، عن التحقيق والمقاضاة في أي قضية تشمل مسؤولين أو موظفين حاليين أو سابقين لدولة مساهمة ليست طرفاً في نظام روما الأساسي في ما يتعلق بالعمليات التي تنشئها الأمم المتحدة أو تأذن بها، إلا إذا قرر مجلس الأمن ما يخالف ذلك.

 

كما تم إبرام اتفاقيات ثنائية مع دول عدة بغرض منع تسليم المواطنين الأميركيين للمحكمة استناداً إلى المادة 98 من نظام روما، وجاء ذلك تكميلاً للقانون (ASPA) المشار إليه أعلاه على الصعيد الدولي.

 

3منع التحقيق مع أميركيين وإسرائيليين

تطور الجفاء إلى عقوبات خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إذ قام في 11 يونيو/حزيران 2020 بإصدار أمر تنفيذي يُجيز تجميد الأصول وحظر السفر العائلي بحق موظفي المحكمة الجنائية الدولية، والذين يُساعدون المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها.

 

وفرضت إدارة ترامب عقوبات على قضاة المحكمة والعاملين فيها، وهددت بعقوبات إضافية في حال استمرار التحقيقات في أفغانستان وفلسطين أو إذا استمرت في التحقيق في سلوك المواطنين الأميركيين والإسرائيليين.

 

وبالرغم من أن إدارة بايدن عادت وألغت تلك العقوبات عام 2021، فإن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أعلن أن "واشنطن تتخذ هذه الخطوة رغم أنها ما زالت مختلفة بشدة مع إجراءات المحكمة الجنائية الدولية المتصلة بأفغانستان والأوضاع الفلسطينية، وما زالت تعارض ما تبذله المحكمة الجنائية الدولية من جهود لتأكيد الاختصاص القضائي على الأفراد من الدول غير الأعضاء فيها، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل"، وهو ما لمسناه في التهديدات الأميركية الحالية التي أتت من أعضاء ومسؤولين من الحزبين في حال استمرت المحكمة بتحقيقاتها في الإبادة الجماعية في غزة.

 

في المحصلة، يستمر الإفلات الإسرائيلي من العقاب، وتمس الضغوط الأميركية بقدرة المحكمة على الاستمرار في قضية إصدار مذكرات بحق نتنياهو وغيره، ويبقى من المفيد الإشارة إلى أنه حتى لو صدرت تلك المذكرات، فإن عدم انضمام "إسرائيل" إلى نظام روما الأساسي يتيح لها عدم التعاون، لكنه يحرج دولاً أعضاء في المحكمة، ومنهم ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها ممن يدعمون "إسرائيل" في حربها على غزة.

  

2024/05/04

الفرنسي في الشرق الأوسط: البحث عن دور

في زيارات مكررة، كما أقرانه الأوروبيون، يزور وزير الخارجية الفرنسية، ستيفان سيجورنيه، منطقة الشرق الأوسط، من أجل البحث في الحرب وإمكان التوصل إلى هدنة في غزة، والبحث في إمكان فصل مسار الجبهة اللبنانية المساندة لغزة عن الحرب الدائرة في فلسطين المحتلة، متذرّعاً بحرصه على عدم تفاقم الوضع وعدم الوصول إلى حرب كبرى.

 

وطرح سيجورنيه في لبنان ورقة فرنسية "معدَّلة" عن الورقة السابقة، التي تمّ طرحها في كانون الثاني/يناير 2024، وأتى بسلّة اقتراحات شفهية للبنان، ليتبين فيما بعد أنها مجرد اقتراحات إسرائيلية – أميركية يحملها الفرنسي إلى لبنان، معتقداً أنه يستطيع، بما له من علاقات تاريخية باللبنانيين، أن يسوّقها كمبادرة فرنسية.

 

لا شكّ في أنها ليست المرة الأولى – ولن تكون الأخيرة - التي سيقوم فيها الفرنسيون بطرح مبادرات تتماهى بصورة كبيرة مع المصالح الإسرائيلية. ويمكن العودة بالتاريخ إلى حرب تموز/يوليو 2006، على سبيل المثال لا الحصر، والنقاشات التي سبقت إقرار القرار 1701، في مجلس الأمن الدولي، لنسترجع التاريخ الفرنسي في تأييد "إسرائيل" على حساب لبنان وسيادته.

 

1- المسودّة الفرنسية الممهدة للقرار 1701:

في 5 آب/أغسطس من عام 2006، وزعت فرنسا مسودة قرار (تدعمها الولايات المتحدة) لعرضها على مجلس الأمن الدولي من أجل "وقف إطلاق النار في لبنان".

 

ونصت تلك المسودة الأولية على وقف الأعمال العدائية، وإعطاء اليونيفيل دوراً إشرافياً وإنسانياً فقط، على أن يقوم حلف شمال الأطلسي بدعم اليونيفيل في ضبط الأمن والاستقرار في جنوبي لبنان، وتنفيذ بنود القرار الأممي. وتنص المسودة الفرنسية، التي عرضت حينها على مجلس الأمن والتي رفضها لبنان، على ما يلي:

 

أ‌ - التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، بما في ذلك نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان.

 

ب‌ - الإفراج غير المشروط عن الأسرى الإسرائيليين، مع "تشجيع الجهود الرامية إلى حل قضية اللبنانيين الأسرى المعتقلين في إسرائيل".

 

ج ‌- نشر "قوة دولية" بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة للمساعدة على تنفيذ "حل طويل الأمد".

 

د ‌- تتولى "القوة الدولية" مهمة نزع سلاح حزب الله وتنفيذ مجلس الأمن الدولي، القرار 1559، وضمان أمن "إسرائيل" على طول الخط الأزرق.

 

لا شكّ في أن الصمود اللبناني حينها، وعدم استطاعة "إسرائيل" أن تحقق أي إنجاز عسكري في الفترة الفاصلة بين 5  آب/أغسطس و14 آب/أغسطس، تاريخ صدور القرار 1701، أدّيا إلى تغيير لغة القرار الأممي ومفرداته وجوهره، فأُزيلت منه الإشارات السابقة إلى الفصل السابع، ولم يذكر عبارة "نزع سلاح حزب الله"، وتمّ التخلي عن فكرة "القوة الدولية"، وصدر القرار بموجب الفصل السادس من صلاحيات مجلس الأمن الدولي.

 

المبادرة الفرنسية "المعدَّلة" في عام 2024

تذكر التقارير الصحافية أن المبادرة الفرنسية، التي تمّ طرحها على لبنان بصيغة "معدّلة"، تهدف إلى فصل مسار الحرب في لبنان عن الحرب في غزة، وطلب انسحاب حزب الله إلى الليطاني وإبقاء منطقة جنوبي الليطاني خالية من السلاح والمظاهر العسكرية، وإعطاء اليونيفيل صلاحية المداهمة والتفتيش عن السلاح والتأكد من التزام حزب الله الانسحاب عسكرياً من المناطق الجنوبية.

 

عملياً، هي الأفكار نفسها، التي لطالما راودت الفرنسيين والأميركيين منذ حرب تموز عام 2006، وهي التصورات نفسها التي يتم طرحها سنوياً خلال مناقشة مجلس الأمن الدولي التمديد لمهمة اليونيفيل في لبنان، علماً بأن الميدان هو الذي فرض إيقاعه على الحل الدبلوماسي عام 2006، وعلى مداولات مجلس الأمن والقرار 1701.

 

واليوم، لن يكون الامر مغايراً، فالميدان سيفرض نفسه، ولن يكون في الإمكان فرض قرار سياسي على لبنان يعطي "إسرائيل"، عبر السياسة والضغوط الدبلوماسية، ما لم تستطع أن تحققه في الميدان.

 

في النتيجة، وفي المشهد العام، يحاول الفرنسيون أن يجدوا لأنفسهم دوراً في مناطق نفوذهم السابقة، فيعملون على تسويق أنفسهم "وسيطاً" بين الأميركيين وخصومهم أو أعدائهم في منطقة الشرق الاوسط.

 

المشكلة، التي تعترض الفرنسيين، أنه لم يعد يُنظَر إليهم كوسيط محايد، لأنهم لا يتمتعون بالاستقلالية التي شهدتها السياسة الخارجية الفرنسية خلال فترة شارل ديغول وما بعده، حين حافظ الفرنسيون على نوع من الاستقلالية في السياسة الخارجية، فثبتوا إرث الديغولية، أو ما يسمى politique arab في العالم العربي.

 

أما المعضلة الثانية، فتتجلى في دخول الألمان منافساً لهم في مناطق نفوذهم التاريخية، فبات على الفرنسيين أن يقاتلوا لاسترجاع دور ونفوذ خسروهما لمصلحة الأميركيين، بينما ينافسهم على ما تبقى من نفوذ ومصالح كل من بريطانيا وألمانيا.