كأن ما يعانيه الرئيس الأميركي جو بايدن من إحراج انتخابي وسياسي في الولايات
المتحدة الأميركية ليس كافياً، ليخرج منافسه الرئيس السابق دونالد ترامب، فيتهمه بالتخلي
عن "إسرائيل"، ويقول: "بايدن فقد السيطرة تماماً على الوضع في إسرائيل.
لقد تخلى عن إسرائيل… أي شخص يهودي يصوت لديمقراطي أو يصوت لبايدن، يجب أن يتم فحص
رأسه".
عملياً، فرضت حرب غزة إيقاعها على الانتخابات الأميركية في سابقة لم تعهدها
الانتخابات الأميركية من قبل، إذ إنّ الاقتصاد والأمور الداخلية غالباً ما تكون هي
المعيار الحاسم في المنافسة الانتخابية، ولا تشكّل السياسة الخارجية الأميركية عاملاً
أساسياً في الانتخابات إلا إذا كانت تعني الناخبين الأميركيين مباشرة.
في العصر الحديث، شكّلت حرب العراق مادة للتجاذب الانتخابي عام 2008،
بسبب رغبة الجمهور الأميركي في عودة الجنود الأميركيين إلى منازلهم، وخصوصاً بعد مقتل
الآلاف منهم. وهكذا، طرح المرشح الديمقراطي باراك أوباما برنامج "الأمل"
لإعادة الجنود إلى منازلهم وإنهاء الحرب. وبالفعل، قام عام 2011 بإعلان انتهاء العمليات
العسكرية في العراق وسحب الجيش الأميركي بعد فشل التوصل إلى اتفاق مع العراقيين على
تمديد مهمة القوات.
أما اليوم، فتشكّل حرب غزة عاملاً أساسياً في الانتخابات الأميركية، ليس
في برامج المرشحين المتنافسين، بل داخل الحزب الديمقراطي نفسه، وتهدد بخسارة محققة
لجو بايدن ضد غريمه دونالد ترامب الذي تبدو حظوظه أوفر في ظل تماسك قاعدته الشعبية،
وتوافق آراء الجمهوريين بشكل عام مع طروحاته، سواء في القضايا الداخلية أو في دعم
"إسرائيل".
لا شكّ في أن الديمقراطية الأميركية والنظام الانتخابي الأميركي فريد
من نوعه من ناحية قدرة اللوبيات على دعم المرشحين والتأثير في النتائج الانتخابية،
كما يتأثر بالمال، إذ تعتبر قدرة المرشحين على جمع المال جزءًا أساسياً من نجاح حملاتهم
الانتخابية.
وبناءعليه، ما تأثير حرب غزة؟ وكيف ستؤثر في الديمقراطية الأميركية بشكل
عام؟
- تأثير المال واللوبيات
لطالما عُرف النظام الأميركي بسيطرة اللوبيات والمال، إذ يشير العديد
من الباحثين والسياسيين الأميركيين إلى أن المال قوّض الديمقراطية الأميركية الحقيقية،
وأن اللوبيات باتت تسيطر على القرار الخارجي الأميركي، وخصوصاً اللوبي اليهودي في الولايات
المتحدة (أيباك)، الذي يستطيع أن يقتصّ من معارضيه من النواب بمنع انتخابهم أو التجديد
لهم، إضافة إلى قدرته على تحقيق شبه إجماع على تأييد "إسرائيل" في الكونغرس
والسياسة والإعلام والجامعات وغيرها.
وربما تكون الإبادة التي حصلت في غزة قد أعادت تسليط الضوء وبقوة على
تأثير اللوبي اليهودي، وعلت الأصوات المعترضة على تأثيره وقدرته على منع الاعتراض الشعبي
من تحقيق أي اختراق على مستوى النواب الذين يخشون على مستقبلهم السياسي، وكشفت كيف
يتمّ تقويض الديمقراطية عبر منع الاعتراض على سياسات "إسرائيل"، وخصوصاً
بعد طرد مسؤولي الجامعات في بلد هو رمز الحريات والديمقراطية وحرية التعبير.
- انفصال النخب عن القواعد الشعبية
كانت انتخابات عام 2016 تاريخية في الولايات المتحدة، إذ يتم اللجوء إليها
كمثال عن انفصال النخب عن القواعد الشعبية وعدم الأخذ بما تريده بعين الاعتبار. في
ذلك الوقت، أصرّت النخب في الحزب الديمقراطي على ترشيح هيلاري كلينتون، التي كان معظم
ناخبي الحزب الديمقراطي لا يؤيدونها ويحمّلونها مسؤولية مقتل السفير الأميركي في ليبيا،
وبعضهم يعتبرها "داعية حرب".
وبالرغم من الاعتراضات الشعبية داخل الحزب، وقيام مجموعات كبيرة بالدعوة
إلى ترشيح بيرني ساندرز مكانها، أصرت النخب في الحزب الديمقراطي على ترشيحها متحدية
الأصوات الشعبية الاعتراضية، ما دفع الكثير من ناخبي الحزب إلى الامتناع عن التصويت،
وفاز دونالد ترامب.
واليوم، تحاول نخب الحزب الديمقراطي تكرار الخطيئة السابقة بالإصرار على
ترشيح جو بايدن الذي أظهرت الانتخابات التمهيدية أن نسب "غير الملتزمين"
بالتصويت له كبيرة جداً، وأن حظوظه بالفوز ضئيلة.
وهكذا، ومع تزايد حجم الاعتراض داخل الحزب الديمقراطي على ترشيح بايدن،
لما يعتبرونه مساهمته ودعمه للإبادة في غزة، تحاول الإدارة الأميركية، ومعها النخب
في الحزب الديمقراطي، ابتزاز الناخبين الديمقراطيين، عبر دعوتهم إلى التصويت لجو بايدن،
والتهويل عليهم بأن امتناعهم سوف يكرر نتائج عام 2016، ويجعل دونالد ترامب يفوز بالانتخابات.
ولعل اللافت في هذه الحركة الشعبية الاعتراضية داخل الحزب الديمقراطي
أن العديد من هؤلاء يعتبرون أن فوز دونالد ترامب هو أحد أهون الشرور، وأنه ضروري لإعادة
الديمقراطية إلى داخل حزبهم، إذ تكون درساً للنخب الحاكمة للعودة للاستماع إلى صوت
الناخبين، وهو الأساس في الديمقراطية، حيث يكون الشعب مصدر السلطة، ويتم الأخذ برأيه
في نوابه وممثليه في السلطات.
في المحصلة، لقد حرّكت حرب غزة المياه الراكدة في الغرب، وجعلت تأييد
"إسرائيل" مكلفاً بدل أن يكون ورقة رابحة صافية يلجأ إليها المسؤولون في
الغرب لكسب النفوذ والحصول على الدعم المادي وتأييد اللوبيات التي تسيطر على الإعلام
والشركات الكبرى الممولة للحملات الانتخابية..
وما الإحراج والكلام المزدوج الذي يقوم به الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته
حول دعم "إسرائيل" والادعاءات الكلامية بالغضب من نتنياهو وضرورة حماية المدنيين
سوى دليل على أن حرب غزة استطاعت فرض نفسها وبقوة في مواجهة سطوة المال واللوبيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق