مع دخول الحرب الاسرائيلية على غزة شهرها السادس، ومع انتشار صور الدمار والمجاعة في القطاع، بدأت بعض الأصوات العربية تخرج لتقول أن حماس ارتكبت عملاً غير محسوب النتائج، وأنها أدّت الى خسارة غزة وخسارة للقضية الفلسطينية، وأن حماس أعطت الفرصة لاسرائيل لتستفيد من تلك الحرب لتقضي على قطاع غزة كلياً وتعيد احتلاله وتقضي على ما تبقى من القضية الفلسطينية.
وبالرغم من الكلفة البشرية والمادية العالية في القطاع، إلا أن تقييم الارباح والخسائر في حرب لامتماثلة لا يحتسب بهذه الطريقة التبسيطية، ولا يمكن تقييم نتائج تلك الحروب كما يتم تقييم الحروب التقليدية التي تحصل بين جيوش نظامية حيث تقاس نتائجها بأعداد الجنود القتلى ومساحة الأرض المحتلة. هذا بالاضافة الى أن تقييم الأرباح والخسائر على المدى القصير في غزة لا يمكن أن يلغي الخسارة الاستراتيجية التي تتعرض لها "اسرائيل" والتي يستمر بالتحذير منها كل من الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي حذّر اسرائيل من استبدال النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية.
ولعل أحد الأمثلة على الهزيمة الاستراتيجية الاسرائيلية هو تبدّل الرأي العام العالمي وصورة اسرائيل في العالم، والتي ارتبطت بأعمال القتل والتجويع والابادة في غزة، خاصة مع قرار محكمة العدل الدولية الابتدائي الذي وجد " معقولية" لادعاء جنوب أفريقيا على اسرائيل بأنها ترتكب "إبادة جماعية" في غزة وأن الفلسطينيين يحتاجون الى حماية، وان على اسرائيل ان تلتزم بما تمليه عليه التزاماتها في "اتفاقية منع إبادة الجنس" الصادرة عام 1951، والموقّعة عليها اسرائيل.
وإذا كان بعض العرب وداعمي اسرائيل في العالم يعتقدون أن اسرائيل غير معنية ولا تكترث بصورتها الدولية، فيمكن أن نشير الى سابقة تعاملها مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379، المعتمد في 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1975، والذي أقرّ أن "الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري" والذي اتخذته الجمعية العامة بأغلبية 72 صوتًا مقابل 35 صوتًا وامتناع 32 عن التصويت. وحيث أتت أهمية ذلك القرار بعد إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري في 21 كانون الأول/ديسمبر 1965 والتي بدأ نفاذها في 4 كانون الثاني/يناير 1969.
لم تستطع اسرائيل "هضم" هذا القرار غير الملزم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعملت دائماً على تقويض سمعة الأمم المتحدة والجمعية العامة التي اتخذت العديد من القرارات التي أدانت اسرائيل وانتصرت للقضية الفلسطينية، الى أن وصل العام 1991، حيث اشترطت اسرائيل أن يتم إلغاء القرار رقم 3379، قبل أن تقبل المشاركة في عملية السلام مع الفلسطينيين، والسير في مسار أوسلو.
وبناءً على الضغوط الأميركية وحاجة العالم للتقدم قدماً في مسار عملية السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين وحيث أن تبدل النظام العالمي وتغيّر الوضع الجيوسياسي في العالم فتح نافذة للأمل بتحقيق مسار للسلام في الشرق الاوسط، تم الغاء القرار المذكور بموجب بموجب القرار 46/86، الذي تم اعتماده في 16 ديسمبر 1991 بأغلبية 111 صوتًا مقابل 25 صوتًا وامتناع 13 عضوًا عن التصويت.
وكانت اسرائيل تسعى الى إصدار قرار معاكس للقرار 3379، وواضح من حيث "الاقرار ان الصهيونية ليست شكلاً من أشكال العنصرية" وحاولت شتى السبل للوصول الى صيغة واضحة في هذا المجال. وبالرغم من ذلك، عادت وقبلت – على مضض- النص القصير الذي فرضته الولايات المتحدة (والتي هيمنت على الأمم المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي) والذي يتضمن عبارة واحدة ""[الجمعية العامة] تقرر إلغاء التحديد الوارد في قرارها 3379 المؤرخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975".
وبالرغم من أن القرار الجديد لم يذكر الصهيونية، وليس فيه إعلان صريح أن الصهيونية ليس شكلاً من أشكال العنصرية، فقد اعتبرته اسرائيل انتصاراً ونتيجة لحملة طويلة من العلاقات العامة والضغوط الدبلوماسية التي مارستها الدول الغربية والولايات المتحدة واسرائيل لنقض القرار السابق.
وعلى هذا الأساس، وبالرغم من أن المعركة العسكرية الجارية في غزة لم تنتهِ، وبالرغم من الكلفة البشرية العالية التي لحقت بالفلسطينيين، يمكن القول أن خسائر استراتيجية لحقت – وستلحق- باسرائيل بعد هذه الحرب.
إن خسارة السمعة والصورة التي عملت اسرائيل طويلاً على تكريسها كـ "دولة ديمقراطية، وضحية" في الشرق الأوسط، ليس تفصيلاً في مسار اسرائيل في المنطقة والعالم، والقضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية (بغض النظر عن نهاياتها بعد أعوام) ليس بالأمر الذي يمكن لاسرائيل أن تتخطاه، والأصوات اليهودية في العالم التي ترفض استخدام الهولوكست لتبرير الابادة في غزة ... كلها خسائر متحققة منذ الآن، تضاف الى ما سيترتب على هذه الحرب من أكلاف سياسية واقتصادية وعسكرية وانقسامات داخل اسرائيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق