تترافق حرب الإبادة التي تقوم بها "إسرائيل"
في قطاع غزة مع حرب نفسية تشنّ على الفلسطينيين في القطاع وحرب إعلامية لكسب الرأي
العام العالمي لتأييدها في الحملة المنهجية التي تشنّها تحضيراً لتنفيذ إبادة في
غزة وكسب التعاطف مع الإسرائيليين، مدّعين أنهم ضحايا، وأن الفلسطينيين مسؤولون
جماعياً عما حصل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
في المقابل، لم يكن الجانب الفلسطيني ودعاة
السلام وحقوق الشعوب في العالم مكتوفي الأيدي، بل واكب هؤلاء مقاومة الفلسطينيين
للعدوان الإسرائيلي مع مواجهة دفاعية إعلامية تؤكد حقهم في أرضهم وتوثق الهمجية
الإسرائيلية، إضافة إلى قيام المقاومة بحرب نفسية على "الجيش"
الإسرائيلي عبر توعده بتحويل توغله البرّي في غزة إلى مقبرة لجنوده وتكبيده خسائر
فادحة في حال استمر في إبادة الفلسطينيين.
الحرب
في وسائل الإعلام بين التقليدي والحديث
بدت تغطية معظم وسائل الإعلام الغربية
التقليدية مطابقة للموقف الرسمي الذي يعتبر القصف الإسرائيلي من مبدأ الدفاع عن
النفس، وكرر الإعلام الغربي السردية الإسرائيلية التي وصمت المقاومة الفلسطينية
بالإرهاب.
ولترسيخ سردية وصورة تبرر أفعال الاحتلال
واستهدافه المدنيين، نقلت وسائل الإعلام الغربية صوراً مزورة قالت إنها لأطفال
قطعت رؤوسهم، وأكد بايدن مشاهدته لها، ليتبين فيما بعد أنها من صنع الذكاء
الاصطناعي، وتقوم مذيعة شبكة "سي أن أن" بالاعتذار.
يضاف هذا إلى أن كبريات الصحف العالمية نقلت
الخبر أيضاً من دون تحقق وتدقيق، ونقلت صوراً لأطفال فلسطينيين مدعيةً أنهم
إسرائيليون من دون أن تقدم اعتذاراً أو تستدرك خطأها، بما يدل على فقدان المهنية
وعدم الاكتراث بالاتهامات بتزوير الحقائق، بعدما كشفت حروب سابقة انخراط الإعلام
الغربي في تزوير الحقائق تمهيداً لدفع الرأي العام إلى تأييد شنّ حلف الناتو
الحروب.
يعدّ انتشار وسائل الإعلام الحديث عاملاً مهماً
في تلك الحرب الإعلامية الدائرة حالياً، بعدما احتكر الإعلام الغربي التقليدي
الصورة العالمية والسردية لمصلحة "إسرائيل" منذ زمن بعيد.
وقد أدى تطور وسائل الإعلام الحديث وانتشار
وسائل التواصل الاجتماعي إلى السماح في كسر الاحتكار الذي مارسه العرب طويلاً،
وبدأ الناشطون يبثون الصور والأفلام المباشرة، ويوثقون المجازر، ويعرضون الأفلام
التوضيحية... ما شكّل عاملاً مهماً في نشر الوعي وإطلاع الجمهور على جرائم
الاحتلال وتعمده قتل المدنيين وعدم تمييزه بين المدنيين والعسكريين وعدم الامتثال
لأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني، ومنها مبدأ التناسب.
ويمكن لمراقب صفحات التواصل الاجتماعي أن يلاحظ
ما يلي:
- الصفحات العربية: طغى الترحيب بعمليات
المقاومة في الداخل الإسرائيلي على الصفحات الناطقة باللغة العربية. وفي وقت لاحق،
بدأت تنتشر صور العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين وتوثيق المجازر والدعوات إلى
إيقاف "إسرائيل" حمام الدم في غزة.
-
الصفحات الغربية: في الأيام الأولى، سيطرت الصفحات التي تدعو إلى إدانة حماس وتؤكد
حق "إسرائيل" في الانتقام على السردية العامة، وبدت أنها تكاد تفرض وجهة
نظرها على الرأي العام الغربي، لكن سرعان ما بدأت هذه السردية تتحوّل لمصلحة
فلسطين، بعد بث صور المجازر الإسرائيلية وانخراط الناشطين في كشف زيف السردية
السابقة، ما أدى إلى ازدياد عدد المطالبين بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة.
وفي هذا الإطار، يلاحظ أن الصفحات الغربية
والأميركية الموالية لـ"إسرائيل" تستمر في السعي لشيطنة كل من يحمل
العلم الفلسطيني أو يؤيد فلسطين أو يدعو إلى عدم إبادة الفلسطينيين، معتبرة أنه
"مؤيد لحماس" و"مؤيد للإرهاب" (كما يصفونه).
وطالبت الدول الغربية بطرد كل متظاهر أو كل من
يحمل علم فلسطين، باعتبار "أنهم إرهابيون سيتحولون لقتل الأوروبيين فيما
بعد"، داعيةً "إسرائيل" إلى "التخلص نهائياً من
الفلسطينيين".
حرب
إعلامية حول "النكبة الجديدة"
ترافق العدوان الإسرائيلي على غزة واعتماد
استراتيجية الأرض المحروقة مع تكثيف استخدام أساليب الحرب النفسية على الفلسطينيين
ورفع وتيرة استهداف المدنيين بالتزامن مع دعوات إعلامية إسرائيلية، وعبر رسائل
صوتية، لأهل غزة للتوجه إلى جنوب القطاع، طالبة منهم مغادرة منازلهم قبل قصفها.
مخطط التهجير ودعوات الرحيل هذه لاقت استنكاراً
واسعاً في مواقع التواصل، ودفعت الكثير من المعلقين، حتى الناشطين الغربيين، إلى
التساؤل: إلى أين يمكن أن يذهب أهل القطاع؟ مستشهدين بما قاله رئيس الوزراء
البريطاني يوماً من أن غزة سجن كبير مفتوح.
وهكذا، يندفع الإسرائيلي مصحوباً بدعم أميركي وغربي
غير مسبوق لتنفيذ إبادة وتهجير جماعي جديد يشبه إلى حد بعيد نكبة عام 1948، فيدعو
الفلسطينيين إلى مغادرة غزة جماعياً والتوجه نحو الحدود مع مصر التي رفضت مخططاً
لإقامة مخيمات في سيناء، بعدما أعلن الإسرائيليون أنهم مستعدون للمساهمة في تمويل
إقامة مدن للفلسطينيين في سيناء، وتحدث إعلاميون إسرائيليون عن عروض أميركية لمصر
بشطب ديونها في مقابل ذلك.
في المحصلة، ومهما كانت نتائج هذه الجولة من
القتال عسكرياً، لا شكّ في أن الاحتلال الإسرائيلي تعرّض لضربة شديدة لم يشهد
مثلها منذ تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لا إعلامياً ولا سياسياً ولا عسكرياً،
إذ شهدت المناطق التي يسيطر عليها والمستوطنات التي أقامها على الأراضي الفلسطينية
اشتباكات فعلية لأول مرة، فيما كانت "إسرائيل" في السابق تقاتل دائماً
في الأراضي العربية، ويكون الضحايا عرباً.
هذه الضربات التي تعرض لها الاحتلال ستبقى في ذهن الإسرائيليين لفترة طويلة، وستؤثر في ثقة المستوطنين بـ"الجيش" وقدرته بعدما كانت ثقتهم بمؤسسات الحكومة والأحزاب والإعلام وسواها قد اهتزت سابقاً. ولا شكّ في أن ذكريات 7 أكتوبر ستبقى طويلاً في ذهن الإسرائيليين الذين سيمتنعون عن السكن في المستوطنات والمناطق القريبة من غزة، وقد يغادرون بشكل نهائي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق