تغيرت موازين القوى في جنوب القوقاز بعد الحرب التي دارت رحاها بين ارمينيا وأذربيجان عام 2020، والتي انتهت بانتصار أذربيجان المدعومة تركياً واسرائيلياً، أضيف اليها الهجوم الأخير لأذربيجان على اقليم نارغونو كاراباع والذي أدى الى استسلام الشعب الأرمني الذي يقطن الاقليم ورحيله قسرياً الى أرمينيا.
وأدى تغير موازين القوى تلك، الى عودة الحديث عن ممر "زانجيزور"، حيث تتهم أذربيجان أرمينيا بأنها تنصلت من الالتزامات التي تعهدت بها عام 2020، ومنها فتح "ممر" في تلك المنطقة يربط اقليم نختشيفان الاذري على الحدود التركية، مع أراضي أذربيحان.
وتعتبر أرمينيا أن التزاماتها بموجب الاتفاق تعني السماح بطريق نقل للبضائع وسفر الآليات وإعادة العمل بسكك حديد كانت موجودة سابقاً حين كانت جميع هذه الأراضي جزءًا من الاتحاد السوفياتي السابق ، وإن أقصى ما يمكن ان تقبل به أن يكون في هذا الطريق ثلاث نقاط عبور حدودية: عند حدود منطقة كلبيجار، وفي كاراهونج الواقعة على حدود منطقة "كوبادلي"، وعلى الحدود مع اقليم نختشيفان.
أما ما تطالب به أذربيجان هو أن يكون لها السيادة على تلك الطريق وأن لا تخضع الآليات والمركبات لأي تفتيش أو جمرك من قبل السلطات الأرمينية، أي أنها تسعى للسيطرة على جزء من الأراضي الأرمنية عبر منحها السيادة عليها.
ومدفوعاً بنشوة الانتصار على الأرمن في اقليم كاراباخ، هدد الرئيس الآذاري الهام علييف، بأن عدم امتثال أرمينيا لما يريده، سيجعله يسيطر عليه بالقوة. علماً أن اصرار أذربيجان ومعها تركيا على السيطرة التامة على معبر زانجيزور، يشكّل تحديات استراتيجية لعدد من دول المنطقة، وذلك على الشكل التالي:
1- أرمينيا:
تطمح أرمينيا للاستفادة من المكاسب الاقتصادية التي ستجنيها من الممر. كما يسعى باشينيان الى الانتهاء من الصراع الأرميني مع كل من اذربيجان وتركيا، من أجل التقدم بطلب لدخول حلف الناتو، وتكريس ارمينيا جزءًا من المشاريع الأوروبية التي تسعى الى إنشاء ممرات لنقل الطاقة من آسيا الوسطى الى أوروبا عبر أذربيجان وتركيا خاصة بعد تخليها عن الغاز الروسي. لكن الاشكالية تكمن في أن الشكل الذي تطالب به أذربيجان سوف يؤدي الى عزل أرمينيا نهائياً عن إيران، وحيث تبقى الحدود الوحيدة المشتركة لأرمينيا هي مع دولتين عدائتين ضدها: تركيا وأذربيجان، ومع جورجيا.
2- روسيا:
لا تمانع روسيا في فتح هذا الطريق لتأمين نقل البضائع وسكك الحديد، ولكنها لا تشير إليه بالصيغة التي تقترحها باكو. والأهم، أن موسكو تصر على تطبيق الاتفاقية الثلاثية التي تفترض أن يكون حرس الحدود الروسي مسؤول عن الإشراف على خطوط النقل هذه.
3- تركيا:
تبدو تركيا الأكثر اهتماماً بالمشروع، فهو سيعزز اتصال تركيا برياً بالعالم التركي، ويجعلها "دولة مركز" لأنابيب الطاقة والتبادلات التجارية بين آسيا الوسطى وأوروبا، ويجعلها على طرق الممرات الرئيسية (خاصة الممر الأوسط) التي تربط الصين بأوروبا.
كما يقلّص فتح هذا الممر المسافة بين أذربيجان وتركيا، حيث يتم توفير التكاليف إذ سيكون هذا الطريق أقصر من خط سكة الحديد الممتد من أذربيجان الى تركيا والذي يمر عبر جورجيا. ويمكن إعادة التفكير بإحياء مشروع نابوكو الذي توقف لأسباب متعددة منها الكلفة المرتفعة لنقل الغاز الآذري الى أوروبا، والذي يمر عبر جورجيا ومنها الى تركيا فأوروبا.
4- إيران:
يسعى هذا الممر الى تطويق إيران، وتهديد أمنها القومي خاصة، وقد حذر وزير الخارجية الإيراني حسين عبداللهيان في 20 أكتوبر/تشرين أول 2022، خلال زيارة إلى يريفان، من أن بلاده لن تتسامح مع أي تغييرات في الحدود الجيوسياسية والممرات التاريخية لجنوب القوقاز، معتبراً أن هذا الموضوع خط أحمر، مهدداً باستخدام جميع الإجراءات اللازمة لمنع حدوث ذلك.
أما الأخطار المتأتية عن فتح هذا الممر بالنسبة لإيران فهي:
أ- قطع الطريق الوحيد أمام إيران للعبور إلى جنوب القوقاز ومنه إلى روسيا وأوروبا.
ب- بالرغم من العلاقات الجيدة مع كل من أذربيجان وتركيا، لكن القلق الايراني المستمر من السياسات الآذرية يعود الى أمرين: المطامع التاريخية الآذرية في الاراضي الايرانية أو ما تسميه باكو "أذربيجان الغربية"، وعليه أن قيام أذربيجان بالسيطرة بالقوة على الاراضي الارمينية قد يغريها للمطالبة بحقوق تاريخية أو العدوان على إيران. بالاضافة الى علاقة أذربيجان مع اسرائيل وإمكانية أن تشكّل أراضي اذربيجان منطلقاً لإسرائيل لمهاجمة إيران، وكان وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين قد دعا الى تشكيل جبهة موحدة مع أذربيجان ضد إيران.
ج- يؤدي هذا الممر الى خسارة اقتصادية إيرانية، إذ أن مرور البضائع بين آسيا الوسطى وتركيا عبر ممر زانجيزور يؤدي الى توقف طرق المرور عبر إيران. علماً أن إيران تطمح لأن تكون هي "دولة مركز" ايضاً لعبور البضائع من آسيا الوسطى والصين الى العالم، بعد رفع العقوبات عنها.
في الخلاصة، وبالرغم من التهديدات الأذرية والتركية التي تهدد بفتح الممر بالقوة، إلا أن الحرب تبدو بعيدة الاحتمالات في المرحلة الراهنة، فالتهديد الايراني يشكّل عامل ردع قوي للدولتين، بالاضافة الى أن الروس لن يتساهلوا ويغضوا النظر عن اندلاع حرب في جنوب القوقاز، كما تساهلوا في قضية ناغورنو كاراباخ لأسباب متعددة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق