طغت الاعتداءات على المصلين في المسجد الأقصى،
ومحاولات المستوطنين اقتحامه لتقديم الذبائح، إضافة إلى الصواريخ التي انطلقت من
كلٍ من لبنان وقطاع غزة، والردّ العدواني الإسرائيلي على أنباء التظاهرات
والانقسامات غير المسبوقة في "إسرائيل" والتي كادت تطيح برئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وكان نتنياهو وأركان حكومته المحرجون بحجم التظاهرات
والاعتراضات، يحتاجون لتصدير أزماتهم إلى الخارج سواء عبر العدوان على الفلسطينيين
أو الاندفاع إلى أيام قتالية مع الخارج (لبنان، غزة). وبسبب صعوبة ضبط أي حرب مع
الخارج وعدم موافقة الأميركيين عليها، فضّلوا تغطية فشلهم بمواجهات وعنف ضد
المصلين المسلمين في المسجد الأقصى.
وعليه، هل يمكن لهذه التطوّرات أن تنهي الأزمة
الاجتماعية-السياسية في "إسرائيل"؟
الإجابة المنطقية تقول بأنه من الصعب على
"إسرائيل" (مهما حاول نتنياهو تصدير أزماته إلى الخارج) أن تتخلّص من
أزمة اجتماعية–سياسية باتت تنبئ بانقسام عمودي من الصعب ترميمه، والذي تطوّر عبر
مراحل طويلة من التحوّلات الاجتماعية، ونوجزها بما يلي:
1-مسار صعود اليمين الإسرائيلي
بدأ مسار صعود اليمين في "إسرائيل" منذ عام
1977، مع وصول حزب الليكود إلى السلطة. وكان لفشل المفاوضات مع الفلسطينيين وفشل
اليسار الإسرائيلي في تطبيق اتفاقيات السلام في التسعينيات، واندلاع الانتفاضات
الفلسطينية المتتالية، أثرٌ كبير على انزياح العديد من الفئات الاجتماعية اليمينية
إلى أقصى التطرّف اليميني، وتراجع قوة المنظمات التي تدعو إلى السلام.
ومنذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، بدأ المجتمع
الإسرائيلي يشهد تحوّلات عميقة في بنيته الاجتماعية، حيث شهد تفكّكُ الاتحاد
السوفياتي هجرة يهودية لأكثر من مليون يهودي من مواطني الاتحاد السوفياتي السابق،
ما بدّل النسيج السكاني داخل "إسرائيل" وتركيبة النخب التي كانت تهيمن
عليها مجموعات الأشكناز–الغربيين العلمانيين والتي كان يستند إليها اليسار
الإسرائيلي.
ومع نهاية القرن العشرين، بدأت مجموعات يمينية جديدة
تتشكّل من تجمّع أقليات إثنية ودينية واجتماعية، تتباين فيما بينها، لكن يجمعها
العداء للعرب والرغبة في تأسيس "دولة يهودية صافية". هذا التحوّل
السياسي نحو اليمين عزّزته مصالح عدد من المجموعات المختلفة، نذكر منها على سبيل
المثال:
-مجموعات المستوطنين الذين يخشون خسارة
امتيازاتهم غير القانونية عبر اتفاقيات السلام.
-اليهود الروس القادمون حديثاً إلى البلاد
والذين يريدون إيجاد مساحة سياسية واجتماعية لهم في الدولة والجيش والحيّز العام.
-مجموعات السفارديم (اليهود الشرقيين)
المستائين من المساعدات السخية التي قدّمها اليسار الحاكم للمهاجرين الروس، والتي
اعتبروها نوعاً من التمييز.
وفي القرن الحادي والعشرين، تطوّر هذا الانقسام، وتمّ
تعزيزه بقدرات إعلامية وانفتاح وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أدّت إلى تزايد
وسائل الإعلام والصحافيين المرتبطين بالتيار المحافظ- اليميني-الديني والذي وفّر
منبراً للمتطرفين الذين لم تكن تسمع أصواتهم علناً في الماضي بسبب سيطرة وسائل
الإعلام التقليدي واحتكارها مساحات التعبير العلني.
2-تنامي قوة الأحزاب الدينية
ارتفعت أسهم التطرّف الديني في العالم خلال العقود
الأخيرة لأسباب متعددة منها-على سبيل المثال-ظاهرة العولمة والخوف على الهويات
الثقافية التي دفعت المواطنين في العالم أجمع للعودة إلى التديّن في ظل انتشار
موجات نيوليبرالية ثقافية تحاول أن تفرض أنماطها على الآخرين، وهو ما يجد مقاومة
ونفوراً لدى العديد من الشعوب التي تعتبر تلك الحركات موجّهة ضد العائلة والله والدين
والقيم التقليدية في المجتمع.
ولأسباب أخرى مرتبطة بالمجتمع اليهودي في
"إسرائيل" حصراً، وارتباط وجوده في فلسطين المحتلة بقصص "توراتية
ووعود إلهية"، وازدياد الهوّة بين الأغنياء والفقراء إلخ... تزايدت قوة
الأحزاب الدينية المتطرفة في "إسرائيل". ومن المفيد التذكير، أن الأحزاب
الدينية في "إسرائيل" تعادي-منذ نشأتها-المحكمة العليا في البلاد،
وتدّعي أنها لا تمثّل الشعب ولا يمكنها فرض نفسها على المتدينين، الذين يجب أن
يخضعوا لأحكام الشريعة لا غير.
وبنظر هذه الأحزاب الصهيونية اليمينية المتطرفة، فإن
الأرض تتمتع بقدسية كبرى يمنع التنازل عنها أو عن أي جزء منها (وذلك يعني استمرار
قضم الأراضي الفلسطينية والتوسّع)، والعداء التام ومنع التعامل بالحسنى مع
"الغريب" (الفلسطينيين)، والتعامل بقوة وصلابة مع العدو الخارجي، ومع
العدو الداخلي (اليهودي الآخر المختلف فكرياً) وهذا الأخير يُعتبر خائناً وهو
أسوأ–بالنسبة إليهم-من العدو الخارجي.
ولعل هذا المعيار الأخير هو ما يدفع الإسرائيليين إلى
التخوّف من ميليشيات "الحرس الوطني" التي يتزعّمها وزير الأمن القومي
الحالي بن غفير والتي قد تصل إلى وقت تعتدي فيه على اليهود أنفسهم مثلما تعتدي على
العرب الفلسطينيين اليوم.
بالنتيجة، من الواضح أن تغيّرات مهمة ستشهدها
"إسرائيل" وستؤدي إلى تطورات هامة في منطقة الشرق الأوسط في العقد
المقبل. فإن ميزان القوى الاستراتيجي لم يعد يعتمد على تفوّق "إسرائيل"
عسكرياً تكنولوجياً واقتصادياً على جيرانها أو أعدائها، بل إن ذلك الميزان بات
مختلاً بمعادلة الردع التي استطاع لبنان أن يفرضها بعد حرب تموز عام 2006، ونهضة
الشعب الفلسطيني في أنحاء فلسطين المحتلة كافة، واستمرار مقاومة غزة التي تعاني
الحصار والقصف والدمار.
كل ذلك إضافة إلى عامل مهم جداً وهو فقدان مناعة المجتمع
الإسرائيلي وعدم تماسكه والصراع الأيديولوجي داخله والذي بدأ يمتدّ إلى
"الجيش" الإسرائيلي الذي تعود له– في النهاية-إمكانية بقاء
"الدولة" أو انهيارها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق