كان لافتاً هذا العام إعطاء مؤتمر ميونيخ السنوي حول الأمن أهمية كبرى لدول الجنوب العالمي، معتبراً أنَّها ساحة صراع عالمي بين الدول الكبرى. وقد أفرد لها حيّزاً موازياً لكلٍّ من حرب أوكرانيا وضرورة مواجهة الصين وروسيا.
كعادته، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأكثر صراحة، لكنه كان الأكثر تشاؤماً أيضاً، حين قال إن "الغرب خسر ثقة الجنوب العالمي، ولم يفعل ما يكفي للرد على تهمة المعايير المزدوجة، وخصوصاً خلال فترة انتشار وباء كورونا، إذ لم يفعل الغرب الكثير لمساعدة تلك الدول ومدّها باللقاحات".
وذكر التّقرير النهائي لمؤتمر ميونيخ أنّ "العديد من البلدان في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية فقد الثقة بشرعية وعدالة النظام الدولي الذي لم يمنحها صوتاً مناسباً في الشؤون العالمية، ولم يعالج مخاوفها الأساسية بشكل كافٍ"، وأضاف: "تعتبر دول الجنوب أن النظام الذي يقوده الغرب يتسم بالهيمنة بعد الاستعمار وازدواجية المعايير وإهمال مخاوف الدول النامية".
وبناءً عليه، وبالاستناد إلى ما كشفه مؤتمر ميونيخ والتطورات التي حصلت منذ الحرب الأوكرانية ولغاية اليوم، نجد ما يلي:
- الغرب يقاتل لاستدامة "نظام هيمنة" يخدمه
لطالما ردَّد العديد من قادة الدول الغربية أنَّ الهدف من عقوباتهم على روسيا هو وجوب امتثالها للنظام الدولي "القائم على القواعد".
وفي هذا الإطار، كان لافتاً أنّ 50% أو أكثر من المستجيبين في جميع البلدان التي شملها استطلاع مؤشر ميونخ للأمن 2023 يرون أن ثمة حاجة إلى قواعد دولية تنطبق على جميع دول العالم على قدم المساواة.
وقد كانت هذه النظرة أقوى بين المستجيبين من عدد من دول الجنوب العالمي، مثل الصين (63%)، والهند (61%)، وجنوب أفريقيا (61%)، والبرازيل (57%)، ما يعني أنَّ المطالبة الدائمة للغرب بالمحافظة على "النظام القائم على القواعد" هي مجرد وصفة لاستدامة نظام الهيمنة الليبرالي الذي لم يعد يرضي العديد من دول العالم وشعوبها، وبات بحاجة إلى إعادة صياغة شاملة للقواعد التي لا تأتي إلا لمصلحة الغرب وشعوبه.
- الغرب يهدف إلى إدامة استغلاله دول الجنوب
اشتكى الكثير من المتحدّثين الغربيين، وكذلك التقرير النهائي لمؤتمر ميونيخ، أن "الدول المؤثرة، مثل الهند أو تركيا أو المملكة العربية السعودية، باتت تسترشد بمنطق أكثر براغماتية، سواء في ردودها على الحرب في أوكرانيا أو في مواقفها من المنافسة الدولية الواسعة حول النظام الدولي".
ودعا التقرير "الولايات المتحدة وأوروبا إلى إعادة التفكير في مقاربتهما للتعاون الإنمائي مع دول جنوب الكرة الأرضية، عبر تقديم نماذج تنموية أكثر جاذبية للمنافسة مع الصين التي تقدم نموذجاً بديلاً يعتمد على التضامن والمنفعة المتبادلة".
عملياً وواقعياً، لا يمكن أن يتنكّر الغرب لفكرة أن سياساته، سواء الاستعمارية أو ما بعدها، كانت السبب في غرق دول الجنوب في التخلف وعدم تحقيق التنمية. لقد جعل هيكل النظام العالمي السائد وقواعده التنمية غير ممكنة في ظل تقسيم يجعل الدول الغنية تحتكر لنفسها الصناعات المتقدمة ولا تسمح بوجودها خارج دائرة نفوذها.
وكان المفكّر بول باران قد اعتبر أنه بعكس الادعاءات الغربية التي تعيد التخلف في دول الجنوب إلى أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، فإن هذا التخلف المزمن الذي تعيشه تلك الدول هو نتيجة الرأسمالية نفسها، إضافةً إلى أنّ الاستعمار خلق مجموعة من الخصائص المشتركة في البلدان المتخلفة، وأن العلاقة البنيوية بين هذه الخصائص أدت إلى إعاقة التطور الرأسمالي والتنمية.
وفي رأيه، من أهمّ هذه الخصائص:
1- وجود قطاع زراعي كبير وشديد التخلّف يهيمن عليه الإنتاج الفلاحي الصغير وتعيش على أساسه طبقة من ملّاك الأراضي.
2- وجود قطاع صناعي صغير ومتقدّم نسبياً ينتج لسوق محلي محدود وعدد من المشروعات المنتجة للتصدير تكون عادة مملوكة لرأس المال الأجنبي.
3- وجود قطاع تجاري واسع تتحكّم من خلاله الرأسمالية التجارية في التجارة الخارجية، ويرتبط عضوياً برأس المال الأجنبي.
وهكذا، نجد أنَّ الغرب يتجه إلى فتح سباق جديد عنوانه "التنمية لكسب النفوذ"، وذلك في ساحات جديدة للتنافس مع الصين وروسيا، مسرحها هذه المرة دول الجنوب العالمي. هذا السباق يعني أن التدخلات والتدخلات المضادة ستزداد في دول الجنوب، ويُخشى معها أن تكون مسرحاً لانقلابات أو ثورات شعبية تحاول إطاحة الحكام الحاليين، لكون هذه الطريقة الأسهل والأكثر فعالية لقلب موازين القوى لمصلحة طرف ما.
لكن ماذا لو أدّت التدخلات والتدخلات المضادة إلى فوضى عارمة في دول الجنوب التي تعاني أزمات معيشية واقتصادية سابقة، أضيفت إليها التحديات الاقتصادية التي فرضتها الحرب الأوكرانية؟
حينها، سيكون العالم أمام موجات بؤس وتخلف وجوع جديدة، وسيكون النظام الدولي الجديد قد قام على أرواح الفقراء في دول الجنوب العالمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق