تتّجه منطقة الشرق الأوسط إلى عملية خلط أوراق، وترتيبات متباينة عما عاشته منذ التدخل الأميركي - البريطاني في العراق عام 2003، وما تلاه من تأجيج الصراع السنّي الشيعي، الذي عدّته "إسرائيل" أساسياً في صراعها ضد إيران.
إذا نظرنا إلى التطورات فسنجد أن مسار الأمور لا يسير بحسب الهوى والتوجهات الأميركية، فرفض الإدارة الأميركية لما سمَّته "التطبيع" مع الرئيس السوري بشار الأسد، لم يفرمل اندفاعة الدول العربية وتركيا إلى التقدم في مسار المصالحة مع الحكومة السورية.
أضف إلى ذلك أن التصعيد الأميركي ضد إيران، واتهامها بزعزعة المنطقة، وأنها "تضطهد" مواطنيها (بحسب الإعلام الغربي)، لم يثنِيا حليفتها التاريخية – السعودية – عن إعلان تفاهم سعودي إيراني برعاية صينية. ولعل المقلق بالنسبة إلى الأميركيين هو انخراط الصين في قضايا الشرق الأوسط، وظهورها في مظهر الداعم للسلام، في وقت كان انخراط الأميركيين فيها وسياساتهم دافعاً إلى الفوضى وحروب الكل ضد الكل.
ويبقى الاتفاق النووي الإيراني، والذي أعلن بايدن، خلال حملته الانتخابية، رغبته في العودة إليه، منتقداً خروج ترامب بشكل أحادي منه. لكن الاشتباك مع الجمهوريين في الداخل الأميركي، وضعف الإدارة النسبي أمام الانتقادات الداخلية، والاتهام الأميركي لإيران بالانخراط في الحرب الأوكرانية، عبر بيع المسيّرات الهجومية لروسيا، جعلت الاتفاق بعيداً عن الطاولة في وقت سابق.
لكن، هل تدفع التطورات الأخيرة في المنطقة بايدن إلى تسهيل العودة إلى الاتفاق، أم أنها أبعدته إلى ما لا نهاية؟
لا شكّ في أن تخلي الإدارة الأميركية نهائياً عن العودة إلى الاتفاق النووي، سوف يؤدي إلى نتائج عكسية:
- بالنسبة إلى المنطقة: هذا الخيار يعني تقويض أي قدرة أميركية على أداء دور في التفاهمات القادمة في المنطقة، بسبب عدم قدرتها على الحوار والتفاهم مع جميع الأطراف، الأمر الذي يعطي الصين ميزة نسبية في أداء أدوار أكبر، على صعيد المنطقة ككل.
- بالنسبة إلى إيران: هذا الخيار سوف يحرّرها من الالتزام بشأن ما كانت وقّعت عليه سابقاً في الاتفاق النووي، عام 2015، لجهة تحديد سقف تخصيب اليورانيوم وغيره، علماً بأن عدداً من التقارير الاستخبارية الغربية قالت إنه بات لدى إيران التقنية اللازمة، علمياً وفنياً، لتصنيع قنبلة نووية خلال أشهر قليلة. وفي هذا الإطار، يكون أمام الولايات المتحدة و"إسرائيل" خيارات محدودة، أبرزها:
أ- الإذعان لفكرة إيران نووية، مع ما يترتب على ذلك من خلط أوراق في المنطقة، ورغبة عدد من الدول العربية في الحصول على القنبلة. وهذا أمر من الصعب على الأميركيين قبوله.
ب- تزخيم العقوبات والضغوط القصوى بصورة أوسع وأكبر على الايرانيين. لكن مبدأ العقوبات الاقتصادية تمّت تجربته بالفعل، ولم يؤدِّ إلى ثني إيران عن مسارها النووي، وبالتالي، قد لا يؤثر كثيراً في مسار الأمور في المنطقة، ولا في إيران.
ج- رضوخ أميركي لـ"إسرائيل"، وشنّ سلسلة من الغارات على المنشآت النووية. وقد يندفع نتنياهو إلى هذا الأمر لتصدير أزمته وأزمة حكومته إلى الخارج.
لكن هذا الخيار خطير جداً، وقد يدفع المنطقة إلى حروب ومواجهات كبرى لا يُعرَف كيف تنتهي، وسيضع القواعد الأميركية في المنطقة تحت نيران الصواريخ الإيرانية، بالإضافة إلى إمكان أن يقوم حلفاء إيران في المنطقة بالردّ على "إسرائيل" مباشرة، علماً بأن خياراً كهذا بات أصعب من قبلُ، بعد أن قامت إيران بالانفتاح والتفاهم مع جيرانها الخليجيين والعراقيين.
ويمكن فهم صعوبة ذهاب الأميركيين إلى خيار التصعيد الحربي مع إيران، من خلال مسارعة بايدن إلى الإعلان أن "الولايات المتحدة لا تسعى لصراع مع إيران"، وذلك رداً على هجوم المسيّرات الذي استهدف القواعد الأميركية في سوريا، والذي قامت به قوى حليفة لإيران.
إذاً، بحسب الخيارات المتاحة وحسابات الأرباح والتكاليف، قد يكون من الأفضل لإدارة بايدن العودة إلى المفاوضات النووية، تطبيقاً لما جاء في وعوده الانتخابية، وما جاء في استراتيجية الأمن القومي الأميركية، المنشورة في تشرين الأول/أكتوبر 2022، والتي تدعو إلى التخلي عن استراتيجية تغيير الأنظمة في المنطقة ودعم الاستقرار، عبر اعتماد الدبلوماسية وتخفيف التوترات الإقليمية.
لكن، بما أن الكونغرس الأميركي، بحزبيه، يدين بالولاء لـ"إسرائيل"، يُخشى أن يكون هذا الخيار هو لكسب الوقت فقط، ولإشاعة أجواء من الهدوء، فتذهب الإدارة الأميركية إلى خيار التفاوض، وهي غير راغبة في التقدم فيه أساساً، فتعتمد مبدأ "مفاوضات من أجل المفاوضات"، من أجل تكبيل إيران ومنعها من التقدم نووياً خلال فترة التفاوض، ولتخفيف الضغوط عن "إسرائيل"، التي تعاني أزمة وجودية داخلية غير مسبوقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق