كما كان متوقعاً، تمّ انتخاب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، للمرة الثالثة، لأول مرة منذ التسعينيات من القرن العشرين، وذلك بعد تعديلات دستورية أقرّها البرلمان حصلت في آذار / مارس عام 2018، عمدت إلى إلغاء حصر الرئاسة بفترتين، ما يسمح فعلياً لشي جين بينغ بالبقاء في السلطة مدى الحياة.
وتعامل الإعلام الغربي والأميركي ببرودة مع ذلك الانتخاب الذي كان أقرب إلى التزكية، بسبب عدم ترشح أي منافس له، معدّين التجديد أمراً طبيعياً بعدما قام شي بتعزيز سلطته السياسية وفرض أيديولوجيته السياسية وقبضته على الحزب الشيوعي، ورفع مكانته إلى مستوى مؤسسه، الرئيس ماو تسي تونغ.
لا شكّ في أن الاستقرار السياسي في الصين يدفع إلى زيادة صعوبة قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على احتواء الصين، والقدرة على زعزعة استقرارها تمهيداً لتحجميها على المستوى العالمي، فالقلاقل السياسية الداخلية والنزعات الانفصالية والتململ داخل الطبقات السياسية والشعبية وداخل الجيش عادة ما تكون مفاتيح السيطرة على الدول وزعزعتها من الداخل، وأحياناً انهيارها كما حصل مع الاتحاد السوفياتي السابق.
منذ عام 2008، يتم تضخيم الخطر الصيني في الولايات المتحدة الأميركية، ويطالب عدد من محلّلي الدفاع بزيادة القدرات الدفاعية للولايات المتحدة في مواجهة الصين، معتبرين أن القوات المسلحة الصينية كبيرة جداً لأغراض دفاعية بحتة، وإن الصين تتعامل بشكل ممتاز ومدرك "لعلاقة النمو الاقتصادي بالإمكانات العسكرية"، وتعمل على تعزيز النمو الاقتصادي الذي سيستتبعه حتماً التوسع بالنمو العسكري.
ومنذ بدايات الصعود الاقتصادي الصيني الذي بدأ مع دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، ما انفك عدد من المحللين العسكريين الأميركيين يطالبون بزيادة موازنة الدفاع الأميركية، وتوسيع قدرات الجيش الأميركي، مستحضرين دائماً "التهديد الصيني". وفي هذا الإطار، نستذكر ما قاله وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد: "بما أنه لا توجد دولة تهدد الصين، يجب على المرء أن يتساءل: لماذا هذا الاستثمار المتزايد في القدرات العسكرية؟ لماذا مشتريات الأسلحة الكبيرة والمتنامية المستمرة؟ لماذا عمليات الانتشار الكبيرة المستمرة؟".
عملياً، حين أطلقت تلك التصريحات لم يكن للصين أي قاعدة عسكرية خارج البلاد، لكن موازنة الدفاع الصينية كانت قد زادت من 26 مليار دولار عام 2001، إلى نحو 78 مليار دولار عام 2008، وأصبحت اليوم في سنة 2023 تعادل ما قيمته 225 مليار دولار تقريباً.
وعلى الصعيد الاقتصادي، كانت الصين قد بدأت تصعد اقتصادياً متّكلة على يد عاملة متوافرة بأسعار زهيدة، وإعانات وحوافز حكومية لعدد من المعامل والشركات، بالإضافة إلى سياسة حمائية إلخ... ما يجعل المنافسة العالمية لمصلحة الصين حتماً.
كما تحتفظ الصين بفائض تجاري ضخم مع كل الدول تقريباً، وخاصة الولايات المتحدة. في العام 2009، بلغ احتياط الصين الأجنبي 2 تريليون دولار، وتفوّقت على اليابان كأكبر مالك لديون الخزانة الأميركية بقيمة 800 مليار دولار تقريباً. وحالياً، تحتل الصين المرتبة الثانية بعد اليابان بين حاملي الديون الأميركية الأجنبية بحيازات خزانة بقيمة تناهز 1 تريليون دولار، وفقاً لإحصاءات أيار/ مايو 2022.
واقعياً، هذه التصريحات والتركيز الأميركي على "التهديد الصيني العسكري" منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لا يأخذ في الاعتبار أنه بالرغم من أن طبيعة الجغرافيا والقدرات العسكرية الأميركية التي تجعل من الصعب جداً على أي دولة أن تهدد الولايات المتحدة الأميركية، فإن موازنة الدفاع الأميركية تضاعفت من 320 مليار دولار عام 2000، لتصل إلى 858 مليار دولار أميركي تقريباً عام 2023.
ولا شكّ في أن تضخيم الخطر الصيني الذي كان في بدايات صعود الصين عام 2008، ولم يكن مشروع طريق الحرير الجديد قد أعلن بعد، يعود إلى اهتمامات ومصالح مطلقيه أو من يمثلون، إذ تُطلق الكثير من التصريحات الأميركية حول السياسية الخارجية خدمة لمصالح اللوبيات أو الشركات التي تستفيد من تلك التصريحات لحيازة عقود من الحكومة الأميركية. وهذا يعيدنا إلى التباين في صنع السياسة الخارجية بين كل من الولايات المتحدة والصين، إذ تستخدم كل منهما نمطاً مختلفاً، على الشكل الآتي:
– النّمط الأوّل: نموذج "المنارة"
في هذا النمط التقليدي، تكون هناك استراتيجية واضحة محددة متعددة الوجوه والمراحل، مع أهداف طويلة وقصيرة ومتوسطة الأجل، على أن تؤدي الاستراتيجية والخطة المرسومة سلفاً دور "المنارة" التي تقود كلّ العمليات الخارجية في منطقة محددة.
هذا النمط تستخدمه الصّين بشكل أساسيّ، إذ يتمّ اعتماد خطط طويلة المدى وخطط خمسيّة وخطط سنويَّة. وتعمل جميع الأجهزة، العسكرية والدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والتنموية، في نسق متكامل لتحقيق الأهداف المرسومة، مسترشدةً بالاستراتيجية التي ترسمها الدولة المركزية، والتي تؤدي دور "المنارة".
– النمط الثاني: نموذج "المرايا"
بموجب هذا النّمط، يقوم صنع استراتيجية السياسة الخارجية بناءً على تعدّد المصالح والمجموعات ومجموعات الضغط والقطاع الخاصّ والمؤسّسات الحكومية، التي يكون لكلِّ واحدة أهدافها ومصالحها، وتتنافس في ما بينها للتأثير في السّياسة الخارجية وقراراتها، وتكون الاستراتيجية الموضوعة انعكاساً ومرآةً لمجموعات متعدّدة من المصالح وتنافسها بين بعضها البعض.
يُعتمد هذا النموذج بشكل أساسيّ في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تتنافس اللوبيات ومجموعات المصالح للتأثير في السياسة الخارجية.
بالنتيجة، نجد أنه من النادر أن يطلق المسؤولون الصينيون تصريحات لا تتناسب مع توجهات السياسة الخارجية للبلاد، بينما يندفع عدد من المسؤولين الأميركيين سواء الحاليين أو السابقين إلى تصريحات وحملات علاقات عامة تسعى للتأثير في قرارات الإدارة الخارجية، ولعلَّ تضارب مصالحها هو الذي يولّد-غالباً – انطباعاً لدى العامة بعدم تناسق الاستراتيجيات الأميركية، وهو أمر غير صحيح.
ولا شكّ في أنَّ هناك مبادئ وثوابت في الاستراتيجيات الأميركية في صنع السياسات الخارجية، مع الاحتفاظ بهامش كبير لأصحاب المصالح، للتأثير وفرض وجهة نظرهم في الوسائل والسبل الأمثل لتحقيق تلك الأهداف، وأهمها حالياً: احتواء الصين وإضعافها، بعد إغراق روسيا في حرب عسكرية طويلة الأمد في أوكرانيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق