المراقب لحركة المستشار
الألماني أولاف شولتس الخارجية يجد أنها تشي بأنّ الألمان يسعون لدور عالمي أكبر
في المستقبل، ولأدوار الهيمنة الأوروبية بعد تردّد طويل.
بالفعل، يمكن وصف اللحظة
التاريخية التي دخل فيها الروس إلى أوكرانيا (كما وصفها شولتس) بأنها شبيهة
بانهيار جدار برلين، فقد قرر الألمان معها التحوّل إلى قطب عالمي أوروبي، ولم يعد
من المقبول بالنسبة إليهم التردد في الهيمنة.
.1ألمانيا التسعينيات: رجل
اليورو المريض
مباشرة بعد انهيار جدار
برلين الذي تلاه تفكّك الاتحاد السوفياتي، تحوّلت ألمانيا إلى دولة تتمتع بأكبر
اقتصاد وديموغرافيا في أوروبا، لكنها عانت الكثير من المشكلات الاقتصادية
والتحديات الناتجة من الوحدة، ما جعل "الإيكونوميست" تسميها "رجل
اليورو المريض" (عام 1999).
على الرغم من تلك
المشكلات، فقد ركّز العديد من الأكاديميين والباحثين في العلاقات الدولية
والجغرافيا السياسية على إمكانية تحوّل ألمانيا إلى القوة المهيمنة في أوروبا، على
الرغم من أنها أكدت دائماً أنها ستبقى قوة مدنية، تعتمد في سياستها الخارجية على
القيم التي تعتبرها غير قابلة للتفاوض، كتجنب استخدام القوة العسكرية وتأييد
الاندماج الإقليمي الأوروبي والتوجه الغربي والدبلوماسية المتعددة الأطراف، كما
أكدت أن الدور الإقليمي لألمانيا الموحدة لن يكون إلا استمراراً للنهج الذي تم
تطويره في ألمانيا الغربية بعد عام 1949.
تاريخياً، استمرت ألمانيا
في أداء دور العملاق الأوروبي "النائم"، فأحجمت عن التصرف كقائد إقليمي
بسبب صعوبة التغلب على ماضيها النازي، ولأنها - لغاية العقد الثاني من القرن
الحادي والعشرين - كانت تعاني ضعفاً هيكلياً يتجسد في الاعتماد الكبير على صادراتها،
وفي المعدلات المنخفضة المزمنة للاستثمار العام، وتزايد شيخوخة السكان، إضافة إلى
النقص في اليد العاملة في الوظائف الصغيرة (المؤقتة والمنخفضة الأجر). والأهم من
ذلك كله، كان الضعف العسكري "النسبي" وعدم الرغبة في زيادة الإنفاق
العسكري.
.2ألمانيا – ميركل: المهيمن
المتردد
وبعد مجيء ميركل، بدأت
ألمانيا تصعد رويداً رويداً، وتتأهل لأخذ أدوار قيادية في أوروبا. وفي العقد الذي
تلا عام 2009 (بداية أزمة اليورو)، والدور الذي قامت به ألمانيا في أزمة الديون
اليونانية، والتصلّب الذي واجهت به اليونانيين ودعتهم إلى "خروج مؤقت من
الاتحاد، وإلا الخضوع لشروطها"، بات نفوذها وقوتها حقيقة واقعة على حساب
الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً فرنسا، بعد خروج بريطانيا منه.
وبسبب عقدة ألمانيا
التاريخية من الظهور بمظهر المهيمن، صار التعاون الفرنسي الألماني يؤشر إلى وضع
"تحتاج فيه فرنسا إلى ألمانيا لإخفاء ضعفها، وألمانيا بحاجة إلى فرنسا لإخفاء
قوتها" (إيكونوميست 2011، نقلاً عن مسؤول أوروبي أثناء أزمة اليورو).
كان للاتفاقيات التي قام
بها غيرهارد شروردر مع موسكو، واستمرَّت بها أنجيلا ميركل، الأثر الكبير في
الاقتصاد والصناعات الألمانية التي استفادت من فارق القيمة ومن أسعار الغاز الروسي
الرخيصة لتحسين شروط المنافسة التجارية في أوروبا والعالم، ثم كانت سياسات
الانفتاح "الإنسانية" التي اتبعتها ميركل، حين أعلنت سياسة الأبواب
المفتوحة للاجئين عام 2015، والتي كان لها تأثيرها الاقتصادي أيضاً، إذ استطاعت
ألمانيا من خلال سياسة "توظيف اللاجئين" أن تسد النقص في العمالة غير
الماهرة ذات الأجر المنخفض.
وهكذا، تحوّلت ألمانيا
إلى عملاق شبه مهيمن على أوروبا، وتحوّلت في فترة قصيرة نسبياً إلى عملاق اقتصادي
أوروبي، لكنه "نمر من ورق" عسكرياً، يعتمد على القواعد العسكرية
الأميركية الموجودة على أرضه للحماية العسكرية، إلى أن حصلت الحرب الأوكرانية في
شباط/فبراير 2022.
.3الحرب الأوكرانية: الفرصة
المتاحة
مع إعلان الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين اعترافه باستقلال الجمهوريات الانفصالية في أوكرانيا، أعلن
المستشار الألماني أولاف شولتس إيقاف "نورد ستريم 2"، ثم تسارعت الأمور،
فوافق على فرض عقوبات على المشروع الذي استثمرت فيه ألمانيا مليارات الدولارات،
وقاومت كل التنمر والضغوط التي قام بها الأميركيون لإنهائه في وقت سابق.
كانت القرارات العقابية
لروسيا التي سار بها شولتس من الناحية الاقتصادية الألمانية مفاجئة، لأنها كانت
تضر الاقتصاد الألماني أكثر من باقي الاقتصادات الأوروبية.
وبسرعة كبيرة لا تتعدى
ساعات بعد التوغل الروسي في أوكرانيا، أعلن شولتس قرار تحوّل ألمانيا إلى دولة
قوية عسكرياً، وأقرّ مجلس النواب الألماني تخصيص 100 مليار دولار كميزانية للدفاع،
وتعهَّدت ألمانيا دفع 2% من الناتج القومي كمساهمة في موازنة الناتو، في خطوات
يبدو أنه كان متفقاً عليها مسبقاً مع الأميركيين.
ومع هذا التوجه الجديد،
تعود إلى بساط البحث فكرة "المجال الحيوي" التي انطلق منها الألمان عشية
الحرب العالمية الثانية، ليتوسعوا ويسيطروا على جيرانهم. "المجال الحيوي" (بالألمانية Lebensraum) هو النظرية التي ترى أن
الدولة كالكائن الحي، لديها حاجاتها ومتطلباتها للعيش.
لذا، عليها أن تتوسع
لتؤمن احتياجات سكانها إن كانت قدراتها أكبر من مساحتها الجغرافية. هذه النظرية
عرضها العالم الألماني فردريك راتزل في كتابه "الجغرافيا السياسية"،
واستخدمها هتلر لتبرير السياسة التوسعية الألمانية.
وإذا كان متعذّراً عملياً
أن تقوم ألمانيا بالسيطرة العسكرية على جيرانها، لأنَّ الدول لم تعد – في وقتنا
الحالي - ترغب في القيام باجتياح عسكري لتهيمن على جيرانها (بسبب الكلفة العالية
وعدم ضمان النجاح)، فإنَّ المسار الألماني التاريخي يؤشر الى أن الهيمنة (غير
العسكرية) الألمانية على أوروبا ستكون واقعاً لا يمكن إغفاله، لكنه قد يؤدي إلى
تمرد سيؤدي إلى مشكلات داخل الاتحاد.
والسؤال
الأساسي يبقى: ماذا لو حصلت تطورات جعلت الألمان يتراجعون اقتصادياً (كتراجع
التصنيع وهجرة الاستثمارات)؟ هل ينكفئون أو يعودون إلى فكرة "المجال
الحيوي" الذي تحتاجه دولتهم للعيش؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق