خُلطت الأوراق بعد أن قام حزب الله بإرسال المسيّرات إلى المياه الاقتصادية الخالصة في فلسطين المحتلة، وتحديداً فوق حقل "كاريش"، حيث استقدمت "إسرائيل" باخرة الإنتاج اليونانية، إنيرجين، من أجل بدء الاستخراج بعد أعوام من التنقيب والاستكشاف، تمهيداً لبيع الغاز لأوروبا، بعد توقيع الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي. وتأتي هذه الخطوة اللبنانية بعد رسائل غير مشجّعة تلقّاها اللبنانيون بشأن العروض والتسهيلات التي قدّموها فيما يتعلّق بالتوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية، إذ اعتمدت "إسرائيل" – بدعم أميركي واضح - مبدأ "آخذ كل شي، واقاسمكم في غازكم ونفطكم".
وكما صار واضحاً في موضوع الغاز في المتوسط، فإن
"إسرائيل" تطبّق الاستراتيجية نفسها في التعامل مع كل من لبنان وفلسطين،
والتي تقوم على ما يلي:
1- منع
التنقيب والاستثمار في الحقول اللبنانية والفلسطينية
مبكّراً في عام 1999، تمّ اكتشاف حقل الغاز في مقابل غزة.
سُمِّي الحقل باسم "غزة مارين"، ويقع على بُعد نحو 36 كيلومتراً غربيّ
غزة. منذ عام 2000، تحاول السلطة الفلسطينية بدء التنقيب عن الغاز في ذلك الحقل،
الذي يحتوي على ما يُقَدَّر بأكثر من تريليون قدم مكعب من الغاز، لكنها فشلت في
ذلك، بعد أن تعاقدت مع عدد من الشركات الأجنبية، وآخرها "شل"، التي
انسحبت، ولم تستطع الاستفادة من العقد الموقَّع بينها وبين السلطة. وعام 2021،
وقّعت مصر مع السلطة تفاهماً لاستغلال الحقل، لكن الطرفين لم يصلا إلى توقيع
اتفاقية بعدُ.
عملياً، تقوم "إسرائيل" - بدعم من الولايات المتحدة
الأميركية - بعرقلة بدء التنقيب والاستكشاف تمهيداً للإنتاج في "غزة
مارين"، وهي الاستراتيجية نفسها التي اتّبعتها الولايات المتحدة مع لبنان،
بحيث مورست ضغوط على شركة "توتال" وشركائها في الكونسورتيوم الدولي،
والتي بدأت التنقيب في البلوك اللبناني الرقم 4، لكن الشركات انسحبت من دون أن
تصدر تقريرها، بعد ضغوط دولية خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وكان مساعد وزير الخارجية الأميركي في إدارة ترامب، دايفد
شينكر، أعلنها صراحة، في مقابلة صحافية[1]، وقال إن الولايات المتحدة وضعت
"تصوراً" لما يجب أن يكون عليه الاتفاق على ترسيم الحدود بين لبنان
و"إسرائيل" (إعطاء "إسرائيل" حصة في الغاز اللبناني). لذلك،
فإن على لبنان أن يطبّق التصور إذا أراد الاستفادة من الغاز في البحر. كما أعلن
الوسيط الأميركي، آموس هوكشتاين، في مقابلة إعلامية، أن على لبنان أن يقبل
"أي شيء" يقدَّم إليه، ما دام ليس لديه شيء.
وهكذا، يمنع الإسرائيليون على كل من لبنان وفلسطين استثمار
مواردهما البحرية، من أجل إبقاء الأزمات المالية والاقتصادية والنقص في الكهرباء،
في كل من لبنان وغزة، لإبقاء الضغوط الاقتصادية من أجل تحقيق مكاسب سياسية
وتنازلات من الطرفين.
2- إثارة
النزاعات الحدودية
كما في لبنان، كذلك في غزة، تقوم "إسرائيل" باستغلال
الاتفاقيات التي تعقدها مع قبرص لتقليص المساحة اللبنانية والمساحة الفلسطينية إلى
أقصى حد، وتوسيع حدودها إلى أقصى حد، من دون الاستناد إلى اي سند قانوني أو علمي
يستند إلى قانون البحار.
تحاول "إسرائيل" أن تقضم من الحقول اللبنانية، ومنها
حقل قانا، ومن البلوكين 8 و9 اللبنانيين. وبالطريقة نفسها، قامت
"إسرائيل" بتقليص مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة لغزة، بحيث أصبح عدد
من الحقول الفلسطينية في مقابل غزة، في المنطقة الاقتصادية الخالصة الإسرائيلية،
الأمر الذي سمح لها باستثمارها بطريقة منفردة.
3- استثمار
الحقول الحدودية وصولاً إلى تجفيفها
تقوم "إسرائيل"، مستفيدة من قدرتها على التنقيب
والاستخراج من دون عراقيل أو ضغوط، بالاستفادة من الحقول المشتركة الواقعة مباشرة
عند حدود فلسطين المحتلة. هذا ما فعلته في حقل "ماري بي"، الذي تمّ
اكتشافه عام 2000، عند الحدود البحرية المشتركة بين "إسرائيل" وغزة،
والذي قُدّرت الثروة فيه بـ 1.5 تريليون قدم مكعب. بدأ الإسرائيليون استخراج الغاز
منه، وتزويد محطاتهم المحلية عام 2004، حتّى تم تجفيفه عام 2011، باستفادة
إسرائيلية مطلقة.
وبالطريقة نفسها تعاملت مع حقل "نوا"، الذي تمّ
اكتشافه عام 1999، والذي تشترك "إسرائيل" وقطاع غزة في بنيته
الجيولوجية، ويمتد إلى أعماق حدود القطاع البحرية، ويقدَّر مخزونه من الغاز بنحو 3
تريليونات قدم مكعب. بدأت "إسرائيل" إنتاج الغاز منه عام 2012، وما هي
إلّا سنوات قليلة حتى تم تجفيفه كلياً من دون أي استفادة فلسطينية منه.
عملياً، هذا ما تنوي "إسرائيل" فعله في حقل
"كاريش"، وفي المنطقة الحدودية من فلسطين المحتلة المتنازَع عليها مع
لبنان، بحيث يريد الإسرائيلي أن يستغلّ قدرته على بدء الإنتاج، بينما لم يبدأ
لبنان التنقيب بعدُ، ليجفف الإسرائيلي الآبار الموجودة في تلك المنطقة بالكامل.
كيف يستفيد الفلسطينيون من سابقة مسيّرات لبنان؟
لا شكّ في أن "إسرائيل" لا تفهم إلّا لغة القوة، ولا
تذهب إلى مفاوضات لتقدّم اي تنازلات، بل لتأخذ أقصى ما تستطيع من الطرف الآخر،
مستفيدة من ضغوط خارجية أميركية، وأحياناً أوروبية، لإيصال الطرف الآخر إلى حد
توقيع اتفاقيات استسلام وتسليم بالأمر الإسرائيلي.
على هذا الأساس، يمكن للفلسطينيين أن يتحلوا بالشجاعة،
ويقتنصوا فرصة حاجة أوروبا إلى غاز شرقي المتوسط، وتوقيع الأوروبيين اتفاقيات
لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر، ومن هناك تسييله وإرساله إلى القارة الأوروبية.
إنها فرصة الفلسطينيين السانحة في توقيع اتفاقية طال انتظارها مع مصر لاستثمار حقل
"غزة مارين"، وبدء التنقيب والاستكشاف فيه، تمهيداً لبيع الغاز في السوق
الاوروبية، وتأمين الكهرباء لقطاع غزة.
يمكن للبنان وفلسطين الاستفادة من الأجواء الدولية لاستخراج غازيهما. لا يحتاج الأمر سوى إلى شجاعة، وتخلي المفاوض الداخلي، في كل من لبنان وفلسطين، عن الخوف والمصالح الشخصية. إنها فرصة تاريخية، فإمّا يغتنمانها، وإمّا سيبقى الغاز مدفوناً في المتوسط، إلى أن تصبح تكلفة استخراجه أقل من ثمن بيعه في السوق العالمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق