بعد إدراك الغرب عدم قدرتهم على الانتصار عسكرياً على الروس في أوكرانيا، بدأت التصريحات الغربية تتطور لتصل الى الدعوة الى إسقاط بوتين في الداخل، وبرزت العديد من المقالات الغربية في هذا السياق، واستكلمت بحديث لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي هدد بعد خطاب زيلينكسي في مجلس العموم البريطاني، قائلاً "سنواصل الضغط بكل الوسائل على روسيا حتى سقوط بوتين"، وقالت وكيلة وزارة الخارجية الأميركي للشؤون السياسي فيكتوريا نولاند،" حينما تتعرض قيادة بوتين للخطر بسبب أوكرانيا، فسيكون أمام تغيير مساره أو أن الشعب الروسي سيتولى الأمور بيديه".
من هنا، يطرح السؤال التالي: الى أي مدى يمكن أن ينجح الغرب في المراهنة على إسقاط بوتين في الداخل؟
في دراسة إحصائية اعدّها مؤخرا أحد المراكز الروسية المعارضة المدعومة من الغرب، اعتبر 59% من المستطلعين الروس أنهم "يدعمون العملية العسكرية على اوكرانيا"، معتبرين أن أوكرانيا هي ضحية الغرب والنازية الجديدة. كما اعتبر 73 % من المستطلعين أنهم يثقون "تماماً" بالمصادر الروسية الرسمية[1].
وفي تحليل لحوالى 2.73 مليون تغريدة على وسائل التواصل الاجتماعي، 51.8 % ينظرون بإيجابية للعمل العسكري في أوكرانيا، وأن 14.5% فقط من التغريدات هي ضد بوتين.
وفي تحليل لتصورات الشعب الروسي ونظرته الى نفسه والى الآخرين، والتي غالباً ما يخطئ الغرب في تقييمها، نجد ما يلي:
أ- إيمان الروس بعظمة بلادهم
يؤمن الروس منذ روسيا القيصرية، مرورًا بالاتحاد السوفييتي ولغاية اليوم، بعظمة بلادهم. على الرغم من الاختلافات الداخلية على الحكم أو في التوجهات السياسية، سواء كانوا مؤيدين للتقارب مع أوروبا، أو مؤمنين بالأوراسية، أو المسيحية الأرثوذكسية الشرقية أو أنصار التوجه الإسلامي، إلخ... فإن العنصر الموحد في الثقافة السياسية الروسية المعاصرة هو الصورة الذاتية لروسيا كقوة عظمى.
حتى في ضوء المشكلات المالية الكبيرة التي واجهتها روسيا في عام 1992، رفض يلتسين عرض "المساعدة" من الرئيس الأميركي بيل كلينتون مشيرًا إلى أننا "لا نطلب الحصول على المساعدات. روسيا قوة عظمى."
من ضمن هذه النظرة للذات، يؤمن الروس بأن دولتهم يجب أن تشارك في تقرير القضايا العالمية، ويكون لها مجال نفوذ في محيطها المجاور، ويعتبرون أن عالمًا متعدد الأقطاب هو الأنسب لهذه الرؤية. وهكذا يرفض الروس قبول تصنيفهم بأنهم قوة إقليمية أو قوة وسط في النظام، فإما "هي قوة عظمى أو لا تكون".
إنطلاقاً من هذه النظرة، فأن ما يفعله بوتين اليوم، بالنسبة للروس، هو تأكيد على أهمية بلادهم وعظمتها وأنهم لن يقبلوا أن يكونوا تابعاً في النظام الدولي.
ب- الخوف والشكّ بمحيط معادٍ
يؤدي الخوف دورًا مؤثرًا في الثقافة السياسية الروسية. بالنسبة للروس، العالم كناية بيئة غير ودية، هدفها الرئيسي تدمير الأمة الروسية.
تاريخياً، تمّ بناء الهوية الروسية المبنية على ركائز ثلاث: الأمن والوحدة، شعور بالغ الأهمية بضروة الحفاظ على مجتمع متماسك، والخوف من الإبادة في بيئة خارجية معادية للغاية. ولعل العامل الأخير مهم في فهم الهوية العكسية: كيف يفكر الروس في أن بقية العالم ينظر إليهم كتهديد أيديولوجي وهدف إقليمي.
في الواقع، كان العالم دائمًا مكانًا خطيرًا للروس، للأسباب التالية:
قاتلت روسيا باستمرار من أجل وجودها في الوقت الذي كانت فيه "محاطة من كل جانب من قبل أعداء أقوياء" أو تتعرض للهجوم من قبل جميع أنواع القوى المعادية: الفايكنج، السويد، تركيا، التتار، فرنسا، ألمانيا، الولايات المتحدة وحلف الناتو، إلخ....استمر الوضع على هذا الحال حتى تمكّن الاتحاد السوفيتي من "تطهير الفناء الخلفي" عن طريق تثبيت مناطق معادية للناتو في محيطه الأوروبي من خلال إنشاء أنظمة سوفيتية في أوروبا الشرقية.
مع بوتين، يشعر الروس بأن الغرب يحاربهم لأنهم "إمبراطوية كبرى" تتعافى بعد أن عانت من فترات من الانحطاط بعد انتهاء الحرب الباردة، لذا فهم مستعدون لفعل كل شيء لحماية هويتهم الوطنية.
منذ عام 2014، يرى الروس توسّع الناتو والاتحاد الاوروبي صوب الحدود الروسية ليس مجرد تهديد جيوبوليتكي فحسب، إنما تهديد وجودي وحضاري، يهدد الهوية الوطنية والقيم الروسية. واليوم، يؤمن الروس ان بوتين يقوم بعملية دفاع عن المواطنين الروس سواء الموجودين في أوكرانيا أو في روسيا نفسها، لأن الغرب حينما ينتهي من "إبادة" الروس في أوكرانيا سينقضّ على الروس المتواجدين في روسيا، بحسب نظرتهم.
ج- الجماعية
تاريخيًا، كانت روسيا على استعداد لوضع جودة الحياة العالية على مذبح مفهوم "روسيا العظمى" velikoderzhavnost '، وكان الناس، كما لاحظ دوستويفسكي، على استعداد للتضحية بثروتهم الاقتصادية الفردية من أجل الواجب الاخلاقي تجاه الوطن.
خلال الحقبة الشيوعية، كانت "الجماعية" إجابة عن المصاعب التي مرّ بها الشعب الروسي نتيجة لثورة أكتوبر والحرب العالمية الثانية. واليوم، يعبّر كثيرون من الروس أنهم مستعدين للتخلي عن وسائل الراحة الفردية والاستقرار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي وتحمّل العقوبات الاقتصادية مقابل تقوية نفوذ بلادهم خارجيًا، والتحرر من الأخطار المختلفة التي تتهددها.
وهكذا، وبناءً على ما تقدم، نجد أن الخطة الغربية بالضغط على الروس للإطاحة ببوتين لا تبدو واقعية. أما المقالات التي تتحدث عن إمكانية قيام النخبة الروسية الغنية والنافذة بالاطاحة ببوتين بسبب قيامه بحرب في أوكرانيا أضرّت بمصالحها، لا تبدو حقيقية، إذ أن تلك النخبة تدين لبوتين وشركائه بما هي عليه الآن، وتؤمن أنها لن تكون مقبولة في الغرب حتى لو أطيح ببوتين فقط لانها روسية وبرأي الروس "الغرب لا يريد للروس أن يتقدموا حضارياً ومالياً".
أما بالنسبة لتحفيز الروس على الإطاحة ببوتين بسبب أعداد القتلى من الجنود فقد استعدّ بوتين لهذا الامر، ودعا للقتال في أوكرانيا فقط "من يريد القتال ويتطوع للمشاركة في تلك العملية الخاصة "، وهكذا فوّت على الخارج والداخل إمكانية الاستثمار في دماء الجنود الروس الذي يقتلون في تلك الحرب.
لطالما أخطأ الأميركيون في الرهان على قدرتهم في تجويع الشعوب لدفعها الى تغيير حكامها، فقد جرّبوا هذه الاستراتيجية في كل من إيران وسوريا وفنزويلا وفشلوا، أما في روسيا، فإن هذا الاستراتيجية لا تعدو كونها وهم أكبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق