تدحرجت الأمور بسرعة كبيرة، واندلعت الحرب في أوكرانيا وانخرط حلف الناتو والاوروبيين في حرب حقيقية مع الروس، ما زالت لغاية اليوم، تجري عسكرياً بالوكالة على الأرض الأوكرانية.
منذ الحرب الباردة، تحاشى القطبان الاصطدام
العسكري المباشر، وتقاتلا بالوكالة على اراضي البلاد التي تنازعوا عليها أو حاولوا
التدخل فيها، تماماً كما يحصل اليوم، حيث يقوم الأميركيون والأوروبيون بتقديم دعم
عسكري ومادي وتصدير مقاتلين لهزيمة الروس في أوكرانيا، وبالرغم من التهديدات
الأوروبية لم يصل الأمر- لغاية اليوم- للاشتباك المباشر.
وهنا يطرح السؤال: هل توقع بوتين ما يحصل،
وهل استدرجه الغربيون الى حرب؟
في هذا الاطار، يمكن ترجيح فرضيتان:
1- أن يكون بوتين قد استدرج الى حرب فعلاً، لم يكن يدرك حجم انخراط الناتو فيها
أصحاب هذه
الفرضية، يشيرون الى أن حجم العقوبات على روسيا وشدتها، وقساوتها على الاقتصاد
الروسي تشير الى انها كانت محضّرة مسبقاً وليست وليدة الأزمة. وفي الإطار العسكري،
ظهر "إعلامياً" أن الروس يستخدمون آليات عسكرية قديمة، وأن تلك الآليات
تعاني من نقص الوقود وغير ذلك.
ويستند هؤلاء
الى أن الروس تقريباً خسروا الحرب الاعلامية في الأيام الاولى للحرب، فلا إعلام
حربي حقيقي للروس، وكان الهجوم الغربي الاعلامي على منصات التواصل كاسحاً. انتشرت
بسرعة مقاطع الفيديو المفبركة التي تستعير من حروب أخرى، وانتشرت أصوات التضامن مع
أوكرانيا وشيطنة روسيا، وتمّ إظهار أن روسيا تخسر الحرب وأن الاوكرانيون يكبدونها
خسائر كبرى بالعتاد والأرواح (بالرغم من عدم قدرة أحد على التأكد من ذلك).
ويؤكد هؤلاء
أن بوتين لم يكن يدرك حجم الاستعداد الأوكراني للحرب، وأن الناتو كان يحضّر مسرح
العمليات لإغراق روسيا في مستنقع أوكراني منذ مدة، واستطاع جرّها اليه.
2-
أن يكون بوتين قد خطط لهذه الحرب بدقة
أصحاب هذه
الفرضية يشيرون الى أن الروس يتقنون جيداً حرب المعلومات، وأنهم نجحوا في السابق
في اختراق المجتمعات الغربية، والتأثير على الانتخابات الأميركية، وبالتالي لا
يمكن القول أنهم عاجزون عن الردّ على الهجمة الاعلامية الغربية في معركة الاعلام.
من الناحية
العسكرية، يشير هؤلاء الى أن الأميركيين استمروا في القتال لمدة 18 يوماً قبل
إعلانهم سقوط العاصمة العراقية بغداد، وذلك بالرغم من انتفاء إي دعم عسكري خارجي
للعراق كما هو الحال مع أوكرانيا، بالاضافة الى أن العراق كان خاضعاً لعقوبات
أممية وحظر طيران لأكثر من عقد من الزمن قبل تلك الحرب.
وبالتالي،
يعتقد هؤلاء أن ما فعله الروس كان جزءًا من التكتيك، وليس فشلاً عسكرياً واستخبارياً
وإعلامياً. يشير هؤلاء الى أن الروس كانوا يحاولون تجنّب خسائر بشرية ومادية هائلة
من الطرفين، وأن الحسابات الروسية الاستراتيجية لعلاقة مستقبلية جيدة مع أوكرانيا تحيي
تاريخاً من الصداقة، تجعل بوتين يريد أن يحصّل أهدافه السياسية عبر الضغط العسكري
والتهديد بدون أن يخلق شرخاً وعداوة بين الشعبين الجارين لا يمكن ترميمها في
المستقبل.
من هنا، غاب
الاعلام الحربي الروسي عن انتصارات ميدانية واسعة روسية، ولم يتم تصوير الدمار في
أوكرانيا أو تصوير أسر جنود لما في ذلك من تأثير على علاقة الشعب الأوكراني
ووجدانه وذاكرته الجماعية.
بكل الاحوال،
لا أحد يستطيع أن يجزم بأي من الفرضيتين، ولكن الأكيد ان الاستخبارات الروسية كانت
تراقب الناتو وقواعده في أوكرانيا تحت مسمى "بعثات" ومراكز تدريب
المتطرفين وسواها مما أعلنه بوتين. وإذا كان الروس – بالفعل- قد أخذوا على حين
غرّة أو استخدموا تكتيكاً حربياً فشل في تحقيق الأهداف، فلا شيء يمنعهم من تغيير
الاستراتيجية الحربية الاولى، بناءً على معطيات جديدة في الميدان.
ويبقى العالم بانتظار التطورات الميدانية والسياسية، ولا أحد يمكنه التكهن بمسار حرب، فالتاريخ يشير الى أن كل من دخل حرباً كان مؤمناً بالانتصار فيها، ولكن النتيجة أفرزت خاسرين في النهاية، وبدّلت خرائط عالمية، وأنهت أمبراطوريات.