ليلى نقولا
قال بول كينيدي في كتابه الشهير "نشوء وسقوط القوى العظمى" إنَّ القرن العشرين هو القرن الذي شهد سقوط أكبر عدد من الإمبراطوريات، كالإمبراطورية العثمانية والفرنسية والبريطانية والسوفياتية والألمانية. وعندما درس أسباب سقوط الإمبراطوريات التي تعاقبت منذ القرن السادس عشر، وجد أنّ هناك 3 عوامل مشتركة ساهمت في سقوط الإمبراطوريات السابقة، وهي:
- العامل الأول اقتصادي: يتلخص بفقدان القدرة التنافسية والإنتاجية، وتجاوز بلدان أخرى للإمبراطورية من الناحية الاقتصادية، وخصوصاً عندما يصبح إنفاقها العسكري أكثر من قدرة اقتصادها على تحمّله، فتصبح القوة عندئذ رهاناً بحد ذاته.
- العامل الثاني: حالة التوسّع المفرط في الهيمنة الخارجية التي تصبح أكثر من قدرتها على الاضطلاع به، والتي تؤدي إلى بعثرة القوة الإمبراطورية، ما يؤدي إلى إرهاقها اقتصادياً. هذا الإرهاق سينعكس على الميدان العسكري، فتلحق بها هزيمة عسكرية. عندئذٍ، يصبح شعب الإمبراطورية غير مقتنع، ولا يكون مؤيداً للهيمنة والتوسع الإمبراطوري، بل يبحث عن أمنه الداخلي، كما حدث للإمبراطوريتين السويدية والبرتغالية.
- العامل الثالث: الهزيمة العسكرية التي تلحق بالإمبراطورية في حرب ما، والتي تعرّضها في ما بعد لغزو داخلي.
وفي تحليلٍ لسقوط الاتحاد السوفياتي، يبدو أنَّ العوامل التي تحدث عنها بول كينيدي توافرت، إضافةً إلى العديد من العوامل الداخلية الأخرى، فأدّت إلى تفككه وانهياره. في بداية العقد الأخير من عمر الاتحاد السوفياتي، عانى الاتحاد من هزيمة وانسحاب مذلٍ من أفغانستان كنتيجة لما يمكن وصفه بـ"مقاومة" التواجد العسكري السوفياتي، والتي موّلها الأميركيون ودعموها، كما اعترفت هيلاري كلينتون في حديثها أمام الكونغرس.
وسادت في أوساط الرأي العام في الاتحاد السوفياتي أولوية التركيز على الأمور الحياتية، ولم تعد أولوية بناء الإمبراطورية والتوسع الخارجي شيئاً يقنع مواطني الاتحاد، بعدما عانى الاتحاد من أزمات حياتية داخلية وفساد، وباتت قدرة المركز على السيطرة على الأطراف أصعب، ما شجَّع يقظة القوميات التي ساهمت في التعجيل بتفكّك الاتحاد.
يعقد الكثير من الباحثين في الولايات المتحدة المقارنات بين ما يحصل في الداخل الأميركي والعوامل التي رافقت العقد الأخير من حياة الاتحاد السوفياتي. ولعلَّ أكثر هذه المقارنات تتمحور حول الأزمة القيادية التي تعانيها الولايات المتحدة.
يشير العديد من الباحثين الديمقراطيين إلى أنَّ الحزب الجمهوري بات يشبه اليوم الحزب الشيوعي السوفياتي في نهاية حقبة السبعينيات. ويشير توم نيكولس في "الأتلانتيك" إلى أنَّ "الجمهوريين دخلوا نوعهم الخاص من البلشفية في المرحلة النهائية"، ويتحدَّث عن أن الحزب الجمهوري "تحوّل إلى حزب سلطوي، تتحكَّم فيه عبادة الشخصية، ويدار من قبل شخص عجوز فاشل، يبحث عن مغامرات جديدة لتجديد ثرواته"، ويشبّه ترامب بالزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، الذي عزز قبضته على الحزب الشيوعي، من خلال رفع الانتهازيين والمقربين حوله، الذين أصرّوا، في العلن وفي الأحاديث الخاصة، على أنَّ بريجنيف كان عبقرياً بطولياً.
ويضيف نيكولس: "مثل بريجنيف، نما ترامب ليصبح شخصية بطولية بين مؤيديه. وإذا تمكَّن الجمهوريون من إنشاء رتبة "مارشال الجمهورية الأميركية"، والحصول على ميدالية "بطل الثقافة الأميركية"، فسيحصل ترامب عليهما معاً".
في المقابل، تشير العديد من المقارنات الأخرى إلى عمر بايدن ونانسي بيلوسي وبيرني ساندرز والعديد من الوجوه البارزة في الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، وتشبّه الأمر بفترة بداية الثمانينيات في الاتحاد السوفياتي، حين كان الحكم يتحوّل إلى من يبقى حياً من الرعيل الأول المؤسس للاتحاد. وقد أدى موت هؤلاء إلى إيصال غورباتشوف إلى السلطة، وهو من الرعيل الثاني. ومناسبة هذه المقارنات هي القلق الذي يعتري الأميركيين من صحة بايدن العقلية والذهنية، والتي يبدو أنها باتت موضع تندّر الجمهوريين في الولايات المتحدة.
هل هذا يعني أنَّ انهيار الولايات المتحدة بات وشيكاً؟
لغاية اليوم، لا يبدو الانهيار الأميركي نظرية قابلة للتحقّق بسرعة، كما يعتقد البعض.
- على الرغم من الركود الاقتصادي والتضخّم، فالاقتصاد الأميركي ما زال قوياً ومتماسكاً، وما زالت الآليات الاقتصادية العالمية في يد الولايات المتحدة الأميركية.
- أما الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، والذي يشبّهه البعض بانسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، فتجدر الإشارة إلى أنَّه لم يكن عاملاً حاسماً في سقوط الاتحاد السوفياتي الذي تم تفكيكه بإرادة سياسية، وليس بهزيمة عسكرية، ولا يشي الانسحاب الأميركي من أفغانستان بهزيمة عسكرية حاسمة، بل إنّ الحروب اليوم تُخاض بوسائل مختلفة، ما زالت الولايات المتحدة تمتلك الكثير من مقوماتها وتتفوَّق فيها أيضاً.
- بالنسبة إلى الشعب الأميركي، وعلى الرغم من أنَّ هناك رغبة متزايدة في عدم الانخراط عسكرياً في الخارج، وخصوصاً بعد حربين مكلفتين في الشرق الأوسط، فإنَّ الانخراط الأميركي في العالم ما زال يجد صداه لدى المؤسسة الحاكمة واللوبيات والإعلام، وهي التي تصنع السياسة في الولايات المتحدة، وليس الشعب الأميركي مباشرة.
الوضع الذي يمكن أن يقلق الأميركيين على "إمبراطوريّتهم" هو شبح الاقتتال الداخلي أو تمرّد الولايات على السلطة المركزية، في حال ترشّح ترامب إلى الانتخابات الرئاسية في العام 2024، وخسر الانتخابات.
ويبدو واضحاً، ومن خلال ما حدث في 6 كانون الثاني/يناير 2021، أنَّ احتمال رفض ترامب نتائج الانتخابات، في حال خسارته، كبير جداً. وبالتالي، ما لم تتم محاسبة المتورطين في "غزوة الكونغرس"، من محرضين ومشاركين ومساهمين، فمن المرجح أن تتكرَّر، وبشكل أكبر، في الانتخابات الرئاسية القادمة.
كما أنَّ التّصريحات التي يطلقها العديد من قادة وحكّام الولايات من الحزب الجمهوري، ورفضهم الانصياع إلى قرارات بايدن وإجراءات السلطة الفيدرالية، يشيان بأنَّ انتخابات 2024 لن تمرّ بسلاسة في الولايات المتحدة.
إنَّ سيناريو كهذا قد يجعل الولايات تتمرَّد على السلطة المركزية، فهل يمكن حينئذ أن تتفكَّك الولايات المتحدة أو تدخل في حرب أهلية شبيهة بالحرب الأهلية السابقة؟ كلّ الأمور واردة، وحركة التاريخ تشي بأنَّ الإمبراطوريات ليست عصيّة على الانهيار. وفي كلِّ الأحوال، هناك 3 سنوات تحضيرية للانتخابات الرئاسية القادمة، وهي مدة زمنية كافية لقلب هذه السيناريوهات أو ترجيحها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق