يعيش لبنان على وقع تداعيات المجزرة التي وقعت في
الطيونة بعدما قام قناصة منتشرون على سطوح الأبنية بقتل متظاهرين من حركة أمل وحزب
الله، كانوا متوجهين لتنفيذ اعتصام ووقفة احتجاجية أمام قصر العدل للاحتجاج على ما
يعتبرونه "تسييس التحقيق" الذي يقيمه المحقق العدلي طارق البيطار.
وفي النقاش الداخلي حول التحقيق الذي يجريه البيطار،
يطرح كل طرف وجهة نظره من القضية ما جعل عمل المحقق العدلي مادة للاستقطاب السياسي
بدل أن تكون آداة لإحقاق الحق وإنصاف الضحايا:
من
جهة، يدفع كثيرون بأنه لا يجب أن يكون هناك تدخل سياسي في التحقيق وأن القاضي
بيطار يجب أن يتمتع بالدعم والتفويض الكاملين للوصول الى الحقيقة، وإن أي تدخل في
عمل القضاء من قبل السلطة السياسية يجب أن يكون مرفوضاً وغير قابل للنقاش.
أما الطرف الآخر، فيطرح علامات استفهام حول المعايير
التي يعتمدها البيطار في استدعاءاته، فلماذا يدّعي على رئيس حكومة حالي بدون رؤساء
الحكومات السابقين الذين دخلت النيترات واستقرت في المرفأ في عهودهم، ثم لماذا
يدّعي على وزراء (داخلية ومالية وأشغال) سابقين بدون أن يحقق مع الوزراء الحاليين،
وهلمّ جراً... فما هي المعايير التي يعتمدها، ولماذا لا يتم استدعاء الجميع
واستجوابهم والاستماع الى افاداتهم؟ هذا بالاضافة الى أمر آخر ومهم، يتعلق
بالتقرير التقني، فلم يحدد البيطار لغاية اليوم، كيف حصل الانفجار، وهل هو عدوان
اسرائيلي أو تفجير داخلي أو حريق مفتعل أو حريق بفعل الاهمال؟ وكيف دخلت النيترات،
ومن أدخلها ولصالح من؟
الواقع، إن الهواجس لدى الطرفين مشروعة، فمن جهة يعيش
اللبنانيون على وقع تسييس دائم للقضايا القانونية، وكم من مرة تدخل سياسي للافراج
عن مطلوبين وارهابيين، وكم من عفو صدر عن مجرمين، وكم من قضية تمت لفلفتها وخذل
القضاء اللبناني الضحايا؟ ومن جهة المقابلة، هناك تجربة تحقيقات اللجنة الدولية
لتقصي الحقائق التي قامت بالتحقيق في اغتيال الرئيس الحريري، وما رافقها من فبركة
شهود زور، وظلم للضباط الأربعة وسجنهم ظلماً لمدة أربع سنوات. ناهيك عن الفضائح
التي رافقت عمل المحقق الالماني ديتليف ميليس، والاستخدام الخارجي للتحقيق لاتهام
"النظام السوري" لمدة 4 سنوات، ثم – فجأة وبدون سابق مقدمات- أخرج
السوريون كلياً من دائرة الاتهام، وتم اتهام حزب الله، بعدما نشرت دير شبيغل عام
2009، مقالاً تحدثت فيه عن تورط حزب الله في القضية... وبالرغم من قيام السيد
نصرالله، بعرض وقائع تشير الى امكانية تورط اسرائيل، ودعوته الى أخذ جميع
السيناريوهات بعين الاعتبار وعدم إسقاط أي فرضية، تمّ توجيه التحقيق الى فرضية
واحدة هي قيام الحزب باغتيال الحريري، وتوالت الاحداث، حتى صدر القرار الاتهامي
الاول يدين افراداً من حزب الله، برأتهم المحكمة بعد سنوات عدّة، وأدانت متهماً
واحداً.
وبالعودة الى أحداث الطيونة المتعلقة بقضية البيطار،
كان يمكن تلافي هذا الاصطدام، وتجنب عودة مشاهد الحرب الأهلية، لو تمّ الأخذ بعين
الاعتبار بهواجس الطرفين أعلاه، والوصول الى صيغة قانونية تحفظ التحقيق من
التدخلات السياسية، وتؤمّن استقلالية القضاء وسرية التحقيق، وتعطي القاضي
الاستقلالية التامة للقيام بتحقيقاته بدون تدخلات، وبالمقابل تعطي الثقة للطرف
الآخر بأن التحقيق لن يتم حرفه عن هدفه الاساسي (إحقاق الحق وتحقيق العدالة
ومحاسبة المتورطين).
هذا في السياسة والقضاء، أما في الموضوع الأمني
الداخلي، فيمكن القول أن استسهال أعمال القنص ومحاولة إعادة عقارب الساعة الى
الوراء، مرده الى ما يلي:
1- سقوط
هيبة الدولة والقوى الأمنية:
خاصة
بعدما استمر التفلت الأمني وحمل السلاح والاقتتال على حدود المناطق المختلطة
طائفياً والاستعراضات العسكرية بدون أي معالجة وبدون قيام القوى الأمنية بالضرب
بيد من حديد لكل من يخلّ بالسلم الاهلي. زد على ذلك، ما قامت به ثورة 17 تشرين من
كسر هيبة القوى الامنيةـ، بعدما قامت مجموعات المتظاهرين بقطع الطرق على المواطنين
والتنكيل بحق الناس بالتنقل والذهاب والاياب لتأمين لقمة عيشهم، وذلك برعاية
وحماية القوى الأمنية نفسها.
2- سقوط
توازن الردع الداخلي:
منذ عام 2008، تمّ تكريس خط أحمر (غير معلن) يمنع
الاقتتال الداخلي، وباتت الأطراف السياسية الداخلية تتحاشى الاحتكام الى الشارع
ذلك لغياب التوازن وعدم التقارب في موازين القوى الداخلية. ولقد حاولت بعض الأطراف
الاقليمية الدفع الى اقتتال أهلي لبناني، عبر محاولة تصدير الاقتتال السوري الى
الداخل اللبناني، لكن غياب التوازن ظل المانع الاساسي لجرّ اللبنانيين الى الحرب
مجدداً.
لكن ما حصل خلال السنوات الماضية، أن الطرف الأقوى عسكرياً،
وعبر اطلاق سلسلة من المواقف والخطابات، أشارت الى ما يشبه "فوبيا" لدى
حزب الله من الحرب الأهلية الداخلية؛ فالاعتداءات وقتل المناصرين في الداخل قوبلت
دوماً بالدعوة الى ضبط النفس وعدم الانجرار الى الفتنة، حتى مكافحة الفساد التي تم
الوعد بها خلال الحملة الانتخابية تمّ التراجع عنها وتوكيل أمرها للقضاء اللبناني
"لأنها قد تؤدي الى حرب أهلية"، ثم كل محاولات الاستفزازات وقطع طريق
الجنوب بعد 17 تشرين الاول 2019، وأحداث خلدة وما قبلها، قوبلت بالدعوة الى
"كتم الغضب وضبط النفس".
بالنتيجة، من أهم قواعد العلم العسكري والاستراتيجي،
أن لا تترك للعدو القدرة لأن يعرف ثلاث: نقاط قوتك، نقاط ضعفك، وما ستكون عليه ردة
فعلك... بهذا المعنى، تقوم الدول أو الاطراف، باعتماد سياسة الغموض، فلا تترك
لأعدائها القدرة على التنبؤ مسبقاً بردات فعلها، ولا تسمح بكشف نقاط القوة والضعف
لديها، وإلا خسرت معاركها.
إذًأ، بعد دراسة "السلوك الداخلي" للحزب
بدقة على مدى سنوات، بات خصوم حزب الله يستطيعون توقع ردات فعله المفترضة، لذا فهم
يعرفون أن اي اعتداء يقومون به سيقابل بـ "ضبط النفس"، وبالتالي يمكن
لهم أن يحققوا مكاسب سياسية وانتخابية ومادية عبر افتعال "توتر أمني
محدود"، يضعف هيبة حزب الله في الداخل ويخسره تفوق الردع.
واليوم، بعد حادثة الطيونة يمكن أن نتوقع أن الحرب الاهلية لن تعود في لبنان لعدم قدرة الاطراف الداخلية عليها وعدم رغبة الخارج بها، ولكن نتوقع تغيراً في ردات فعل الاطراف الداخلية، سواء عبر محاولة افتعال التوترات الامنية أو الردّ عليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق