تجد فرنسا نفسها غاضبة بـعد "الطعنة في الظهر" التي تلقتها من قبل حلفائها، بعد الاعلان عن إتفاقية تحالف أمني بين كل من استراليا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، والتي أضاعت على باريس عقدا ًتمّ توقيعه عام 2016، بين كل من استراليا ومجموعة "نافال غروب" المملوكة للدولة الفرنسية لتصنيع 12 غواصة تقليدية تعمل بالديزل والكهرباء تحت اسم "أتاك كلاس"، بقيمة 66 مليار دولار أميركي، وحيث سيحصل الجيش الأسترالي على ثماني غواصات على الأقل تعمل بالطاقة النووية من الولايات المتحدة بدلاَ من الغواصات الفرنسية .
وتأتي هذه الضربة للفرنسيين، على أبواب انتخابات رئاسية داخلية يتوقع الكتير من المراقبين أن يفقد ماكرون القدرة على العودة الى الحكم من جديد، وفي ظل غياب ميركل عن المشهد الإلماني، واحتمالات خسارة حزبها الانتخابات الداخلية المرتقبة في إلمانيا.
منذ مجيء ماكرون الى الحكم، وهو – كالعديد من القادة الفرنسيين قبله- يسعى الى مزيد من الاستقلالية الأوروبية عن الولايات المتحدة الأميركية، وقد تطورت التصورات الفرنسية، منذ خطاب ماكرون[1] في جامعة السوربون عام 2017 والذي اعتبر فيه أن "الطريقة الوحيدة لضمان المستقبل هي إعادة تأسيس أوروبا ذات سيادة وموحدة وديمقراطية"، ثم دعوته عام 2018 الى "تعميق التضامن في الاتحاد الأوروبي وإنشاء جيش أوروبي"[2]، وصولاً الى دعوته ميركل عام 2020 الى حوار استراتيجي لبحث سياسة مستقبلية للاتحاد، تأخذ بعين الاعتبار المستجدات على الساحة الدولية والتراجع الأميركي، لكن ميركل خذلته معتبرة أنه في حال قررت الولايات المتحدة عدم رغبتها بقيادة العالم، يمكن حينها للاوروبيين بالتفكير ببدائل.
ولم يكتفِ ماكرون بذلك، بل اعتبر في مقابلة مع مجلة The Economist عام 2019، أن الناتو يعاني من "موت دماغي" ما أثار ردة فعل سريعة من قبل الحلفاء في الناتو والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي انتقدت هذه الأقوال، معتبرة أنه "حتى لو كانت لدينا مشاكل لكننا نحتاج إلى التكاتف". كان ماكرون ينتقد في تلك المقابلة، ما اعتبره غياب التنسيق بين اعضاء الناتو، والشكوك حوال التزام الولايات المتحدة الأميركية بأمن حلفائها وباستمرار الناتو في ظل حكم دونالد ترامب.
واليوم، هل يكون بإمكان الفرنسيين أن يدفعوا الى مزيد من الاستقلال الاوروبي لمواجهة التغيرات العالمية، خاصة بعدما تبين ان الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تعطي الأولوية لأوروبا في تقييمها الاستراتيجي، بل إن منطقة شرق آسيا، باتت في المرتبة الأولى في تقييم التهديدات والفرص الاستراتيجية الأميركية؟.
لمواجهة المتغيرات الاستراتيجية العالمية الزاحفة والمتحولة، على الأوروبيين القيام بما يلي:
أولاً- تعزيز الاستقلالية في السياسة الخارجية:
لا شكّ أن الاوروبيين تنفسوا الصعداء بعد مجيء جو بايدن الى الحكم في الولايات المتحدة وإعلانه "عودة أميركا"، خاصة بعد قمة السبع والاتفاق على إطلاق مشروع تنموي موازٍ للمشروع الصيني.
وكان تقسيم بايدن للعالم بين طرفي نقيض" الدول الديمقراطية، والدول غير الديمقراطية، مدغدعاً لعواطف معظم الحكام الأوروبيين، الذين ما زالوا يمنون النفس بنشر القيم الليبرالية في العالم.
لكن الكلام شيء والافعال شيء آخر، وتبدو أولويات الولايات المتحدة بعيدة عن أولويات أوروبا اليوم، حيث يبدو أن الولايات المتحدة تعطي الأولوية لصراعها الاستراتيجي مع الصين، وإن سياسة "أوروبا أولاً" التي سادت في التقييم الاستراتيجي الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية أصبحت من الماضي.
ثانياً- تعزيز القدرات العسكرية الأوروبية:
في هذا الإطار، لطالما اعتبر ماكرون أنه " إذا لم يكن لأوروبا مصداقية عسكرية، في عالم تتصاعد فيه القوى الاستبدادية مرة أخرى، فلن تستطيع أن تجلس على الطاولة".
وبالفعل، إن إلتزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، وانفاقها الدفاعي الهائل على حلف الناتو سيصبح من الماضي، في ظل تشاطر الحزبين في الولايات المتحدة النظرة الى أن الانفاق الدفاعي الاوروبي هو اقل من المطلوب بكثير، وان الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمّل "الركاب بالمجان free riders
ثالثاً- تعزيز القدرات الجيوسياسية الاوروبية:
لا يمكن لأوروبا ان تواجه العقد القادم من القرن الحادي والعشرين، بأدوات تقليدية. إن العالم مقبل على تحديات جمّة، سيستعر فيها التنافس الاستراتيجي بين القوى العظمى عبر حروب هجينة ومركّبة، لذا فإن غياب أوروبا عن الفعالية والنفوذ في قضايا مثل الاقتصاد الرقمي، والتجارة والتنمية والاستثمارات في التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، سيجعلها ساحة تنافس نفوذ بين القوى العظمى بدل أن تكون لاعباً اساسياً على المسرح العالمي.
رابعاً- استقلالية النظرة الى كل من روسيا والصين
لن يستطيع الاوروبيون الاستمرار في السير خلف الولايات المتحدة الأميركية، في ظل تباين مصالح الطرفين وتباين أولوياتهما. إن النظرة الأوروبية الى روسيا كجار وشريك ومنافس تختلف عن التقييم الأميركي للصراع العالمي مع الروس، وبالتالي ان التجاور الجغرافي مع روسيا يحتّم على الأوروبيين اعتماد مقاربة مختلفة عن المقاربة الأميركية للعلاقة مع الروس.
أما بالنسبة للصين، فتنظر اليها أوروبا باعتبارها "شريكاً ضرورياً وخصماً" في نفس الوقت. وكان ماكرون قد سارع الى التعليق على البيان الختامي لقمة حلف شمال الاطلسي، التي انعقدت في حزيران / يونيو المنصرم، والذي أُدرجت فيه الصين باعتبارها باتت "تشكّل خطراً أمنياً... وتحدّياً للنظام الدولي"، بالقول إنه "ليس للصين علاقة تُذكر بالحلف (الناتو)؛ لذا، من المهمّ ألّا ننحاز في علاقاتنا".
بالنتيجة، من غير المتوقع أن يستطيع الأوروبيون السير نحو الاستقلالية عن الولايات المتحدة بهذه السهولة، في ظل غياب الرغبة لدى العديد من القادة الأوروبيين بشكل عام والالمان بشكل خاص، وعدم قدرة فرنسا منفردة على السير بهذه المهمة، بالإضافة الى سيطرة الولايات المتحدة على قرار العديد من الدول الصغرى في الاتحاد.
وعليه، إن مسار التطورات في العالم، تفيد بأنه في عالم متحوّل بسرعة، إن لم تستطع أوروبا التكيّف مع التحديات الاستراتيجية الزاحفة، فستتحول من قطب موازٍ الى ساحة صراع ومجال للمنافسة بين القوى الكبرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق