بعد
أيام مليئة بالتوتر والحذر الاقليميين، وغارات اسرائيلية على جنوب لبنان قوبلت
بردٍ من حزب الله عبر إطلاق صواريخ على أراضٍ غير مأهولة في مزارع شبعا اللبنانية
المحتلة، حدد السيد حسن نصرالله بدقة ووضوح المعادلات التي تحكم عمل المقاومة في
ردّها على الاسرائيليين في الحرب المفتوحة بين لبنان "واسرائيل".
لقد
حرص السيد نصرالله على تأكيد مسلمتين تحكم العمل المقاوم اللبناني تجاه العدوان
الاسرائيلي على لبنان، ونبرزها كما يلي:
اولاً-
جوهرية "عدم افلات اسرائيل" من العقاب، وفيها معيارين:
-
المعيار الأول: التكافؤ الردعي
-
المعيار الثاني: طبيعة الساحة - الجغرافيا
لا
شكّ أن قيام لبنان باجبار الاسرائيليين على الانسحاب – ولأول مرّة- من أراضٍ عربية
بالقوة وبدون قيد أو شرط ومن دون توقيع اتفاقية سلام أو استسلام، شكّل مأزقاً
لاسرائيل التي اعتادت على "قبض ثمن" العدوان الذي تقوم به على الدول
العربية.
وكانت
حرب تموز 2006، المحاولة الاسرائيلية لقلب المعادلات وإعادة عقارب الساعة الى
الوراء واستعادة هيبة الردع وانتقاماً لانسحاب مذلٍ من لبنان، والتخلص من
المقاومة، لكن السحر انقلب على الساحر، وتحوّلت حرب تموز أو ما يسميه الاسرائيليون "حرب لبنان
الثانية" بمثابة الحدّ الفاصل بين زمنين؛ الاول زمن فيه غطرسة واضحة وتهديدات
لكل من تسوّل له نفسه تحدي الارادة الاسرائيلية في المنطقة، أما الثاني فزمن
استطاعت فيه المقاومة أن تُظهر اسرائيل دولة واهنة، غير قادرة على الانتصار في حرب
خرجت إليها مستعدة، فتحوّلت الى هزيمة لم تزل تداعياتها تطبع فكر وعقيدة صانع
القرار العسكري الاسرائيلي لغاية اليوم.
قبل
حرب تموز، كانت إسرائيل تملك قرارين أساسيين: قرار الدخول في الحرب وقرار الخروج
منها وإنهائها ساعة تشاء، وبالشكل الذي تريد. ولقد شكّل التفوق العسكري والدعم
الدولي المفرط سياسياً وعسكرياً ودبلوماسياً عاملاً مساندًا لها في الهيمنة في
المنطقة، واحتكار قرار الحرب والسلم.
في
تلك المرحلة بالذات، استطاعت اسرائيل وحلفائها الدوليين أن يخلقوا في ذهن الشعوب
العربية أن كلفة الاستسلام تبقى أقلّ من كلفة الحرب، فكانت اسرائيل تحقق عبر
التهويل ما تريد تحقيقه بالحرب وبكلفة لا تُذكر، فتنتصر في حربٍ لا تضطر أحياناً
الى خوضها.
أما
بعد حرب تموز، فلقد ظهر جلياً أن إحدى القرارين (الدخول في الحرب والخروج منها) قد
خسرته اسرائيل وللأبد، وبقيت اسرائيل لغاية هذه اللحظات، تستطيع اتخاذ القرار
بالحرب ولكنها تدرك أن الخروج منها بانتصار أو بأكلاف قليلة لم يعد بمتناول يدها.
وباتت تخشى أن تتدحرج الأمور في أي حرب مقبلة، فتتحول الأراضي الفلسطينية المحتلة
والجليل الى ساحة المعركة وانتفت قدرتها على "أخذ الحرب الى ديار العدو".
ومنذ ذلك الوقت، كرّست المقاومة
معادلة "عدم افلات اسرائيل من العقاب على العدوان"، فكانت معادلة دقيقة
"عاصمة مقابل عاصمة، مطار مقابل مطار، مقاتل مقابل مقاتل..." لتعطي قوة
للبنان، بأن زمن الافلات الاسرائيلي من العقاب قد انتهى، وان انتظار المحاكم
الدولية والأمم المتحدة لمحاسبة اسرائيل على عدوانها وعلى جرائمها المرتكبة في كل
من لبنان وسوريا وفلسطين لن يجدي نفعاً.
وانطلاقاً
من هذه المعادلة الدقيقة، يتعاطى حزب الله مع الجغرافيا التي يتم فيها العدوان
بدقة أيضاً، فالعدوان على لبنان لا يمر مرور الكرام مهما بلغت الأثمان المدفوعة،
وقيام اسرائيل باغتيال أحد قادة المقاومة أو عناصرها يستوجب ردًا بالتأكيد لكن
الساحة التي يتم فيها الاستهداف تؤخذ بعين الاعتبار، وهو ما كرّس خطاً أحمر حول
مساحة لبنان، التي تحوّلت الى مساحة يخشاها الاسرائيلي ويتعامل معها بحذر شديد.
ثانياً-
الالتزام بمبادئ القانون الدولي الانساني
لقد
حدد القانون الدولي الانساني، أو ما يُعرف بقانون النزاعات المسلحة (قانون الحرب)،
قواعد لما يمكن أن يكون مقبولاً من أعمال عسكرية خلال الحروب، وذلك انطلاقاً من
ضرورة المواءمة بين الاعتبارات الإنسانية والضرورة العسكرية التي تحتّم على
المتقاتلين أن يحترموا قواعد أساسية لحماية المدنيين خلال نزاعاتهم المسلحة.
ولعل
أبرز هذه المبادئ، هي التمييز بين المدنيين والعسكريين، والتي تتضمن مبدأ المشاركة
المباشرة في الاعمال العدائية، ومبدأ التناسب.
وبهذا
المعنى، نلاحظ مما شرحه السيد نصرالله في خطابه الأخير، أن الحزب كان حريصاً في
ردّه على الاسرائيليين، على احترام تلك القواعد، وذلك عبر:
-
الردّ اللبناني على أراضٍ مفتوحة غير مأهولة،
مقابل القصف الاسرائيلي على أراضٍ مفتوحة غير مأهولة، وهو مبدأ التناسب بين الفعل
ورد الفعل.
-
الاشارة الى أن الحزب كان يحرص في محاولة الردّ
على اغتيال أفراده في سوريا، باستهداف العسكريين الاسرائيليين، يعني أن الحزب
يلتزم مبادئ القانون الدولي الانساني في التمييز بين المدنيين والعسكريين، بحيث
يكرّس هذا القانون ضرورة حماية المدنيين، في حين أن العسكريين والمشاركين مشاركة
مباشرة في الاعمال العدائية ( وحتى لو كانوا من غير العسكريين) هم أهداف مشروعة
خلال النزاع العسكري.
في
الخلاصة، الجميع بات يدرك أن "إسرائيل" التي كانت دائماً تضع نصب عينيها
حاجتها لإخضاع اللبنانيين وإذلالهم عبر الحديد والنار، وأنها انتقلت الى
استراتيجية أخرى في السنوات الأخيرة، وهي اخضاع اللبنانيين وإذلالهم عبر تجويعهم
(وهو ما هدد به بومبيو وشينكر)، للقبول بما لا يُقبل به وفقدان السيادة والكرامة
الوطنية. لكن اللبناني يستمد قوته من نفسه وتاريخه. والتاريخ يذكر أن صور فضلت أن
تحرق نفسها على أن تخضع للمحتل وتخسر كرامتها، واليوم، يفضّل اللبناني أن يجوع
ويأكل التراب على أن يخسر كرامته وشرفه ويعيش عبداً ذليلاً، أو يخسر سيادته على
أرضه ومياهه وغازه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق