كان يوم 25 تموز/يوليو يوماً مفصلياً في حياة تونس، إذ اتخذ الرئيس التونسي قيس سعيّد سلسلة من القرارات الجريئة، مستنداً الى الفصل 80 من الدستور الذي يعطي الرئيس صلاحية اتخاذ تدابير استثنائية "في حالة خطر داهم" يهدّد الأمن القومي. وكانت المظاهرات قد عمّت تونس احتجاجًا على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وسوء إدارة أزمة كورونا، وأعداد الضحايا المرتفعة والتي أبرزت تونس كأحد أسوأ الدول الافريقية في التعاطي مع الجائحة.
وبمشهد يذكّر بما حصل في حزيران/ يونيو عام 2013 في مصر، اعتبر حزب النهضة الاسلامي التونسي أن ما قام به سعيّد هو "انقلاب" في مقارنة واضحة بما قام به السيسي في مصر بعد الاطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي. وكان واضحاً أن الانقسام الخارجي والدولي والتسويق الاعلامي السياسي لهذا الطرف أو ذاك في المشهد التونسي، يشبه الى حدٍ بعيد ما حصل في مصر بعد ثورة 30 يونيو، مع الفارق الوحيد أن التجربة المصرية كانت أشد وقعاً وأكثر استقطاباً، بسبب حداثة ما سمي "الربيع العربي" آنذاك.
واقعياً، عاش التونسيون سنوات عشر عجاف منذ الثورة الاولى والاطاحة بحكم بن علي، فلم تستطع تونس أن تعيش انتقالاً ديمقراطياً حقيقياً، ولم تتحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ولم تؤسس الأحزاب التونسية لدولة قانون حقيقية، بل استشرى الفساد في جميع مفاصل الدولة. ويتهم التونسيون حزب النهضة باعتماد سياسة "الغنيمة" الشبيهة الى حدٍ بعيد بما قام به حزب "الحرية والعدالة" في مصر، الذي اتُهم بـ "أخونة الدولة" حينذاك. ويتهم التونسيون معظم الاحزاب الحاكمة باعتماد سياسة المحسوبية والزبائنية والتمكين على حساب المؤسسات في الدولة، ناهيك عن الفساد حيث بيّنت المحكمة شبهات فساد جدّية متعلقة بتمويل خارجي للحملات الانتخابية للعديد من الأحزاب وهو ما يعاقب عليه القانون التونسي.
ويؤخذ على "النهضة" استعمال منطق الغلبة في البرلمان، بحيث يتهم التونسيون الغنوشي بأنه جعل من البرلمان دائرة نفوذ شخصية، وأنها أسقطت "حكومة الرئيس" في السابق بحجج واهية.
وبكل الأحوال، وقياساً على ما حصل عام 2013 في مصر، وبالرغم من أن الواقع المصري مختلف عن الواقع التونسي ولا يمكن قياس التجارب بهذه الطريقة، لكن لا بد من الإشارة الى أن حزب النهضة قد لا يتلقى الدعم الذي تلقاه الاخوان في مصر عام 2013، بسبب اختلاف الظروف الدولية والاقليمية، ونشير الى ما يلي:
- الموقف الاميركي: استمر الأميركيون في دعم حكم مرسي في مصر الى النهاية، وكانت السفيرة الأميركية في مصر آن بترسون قد أعربت عن دعمها لمرسي، ورفض التغيير عبر الشارع، معتبرة أن احتجاجات الشارع «لن تؤدي إلى الديمقراطية المستقرة، التي لن تتحقق سوى بالانتخابات[1]».
وبالرغم من أن الولايات المتحدة كانت قد جمدت مساعداتها العسكرية لمصر على أثر الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، إلا أن إدارة أوباما عادت وأفرجت عن تلك المساعدات لعدة أسباب أبرزها، الحفاظ على أمن اسرائيل وأهمية التعاون مع الجيش المصري في هذا الاطار، عدم خسارة التعاون والعلاقة الجيدة مع الجيش المصري الذي كان يكافح الارهاب في نفس الوقت، ضغوط داخلية من قبل لوبيات السلاح التي كانت قد وقّعت مع الادارة الأميركية على عقود سلاح لتقديمها للجيش المصري.
واليوم، يبدو أن إدارة الرئيس بايدن غير معنية بدعم الاخوان في تونس بدليل رفض المتحدثة باسم البيت الأبيض بتوصيف الأمر انقلاباً، بعكس التصريحات الأميركية حول مصر والتي استمرت السفيرة الأميركية نفسها بوصفها بالانقلاب لغاية اليوم، وذلك خلال حلقة نقاشية، بعنوان “الانتفاضات العربية بعد 8 سنوات.. الدروس المستفادة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”، والتي نظمها مركز التقدم الأميركي في واشنطن، في شباط عام 2019[2].
- اختلاف الموقف التركي عما كان عليه عام 2013:
لا شكّ أن التطورات التي حصلت خلال الاعوام الأخيرة، والتدخل الروسي في سوريا، وتبدل أولويات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، ومحاولة مدّ نفوذه الى أبعد من الشرق الأوسط والعالم العربي، وتدخله في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، ومحاولة تقرّبه مع مصر والخليجيين، تجعل من الدعم التركي للنهضة أقل حدّة وعلانية مما كان عليه الدعم لاخوان مصر واعتصام رابعة في مصر.
- النفوذ الخليجي المتصاعد في شمال أفريقيا، والنجاح الذي حققه الخليجيون في تشكيل التطورات والتغييرات في المنطقة بما يجعل من قدرتهم على التدخل أقوى وأفعل مما كان عليه عام 2013.
بالمحصلة، وبغض النظر عن التوصيفات المستنسخة من التجربة المصرية وتجارب حكم الإخوان في المرحلة الاولى التي تلت انتفاضات "الربيع العربي"، يبدو حزب النهضة التونسي أكثر براغماتية من الاحزاب الإخوانية الاخرى في الدول العربية، ففي حمأة تساقط الاحزاب الاسلامية وتداعي مشروع "العثمانية الجديدة" عام 2013، استطاع النهضة أن يحافظ على نفسه في تونس، ويعمد الى تقليص سقف توقعاته، الأمر الذي أدّى الى حيازته كتلة نيابية وازنة في الانتخابات التشريعية عامي 2014، و2019.
واليوم، نجد أن هناك توزيعاً للأدوار داخل حزب النهضة، ففي حين يعمد البعض الى تليين الأمور وطلب الاعتذار من الشعب التونسي، يحرّض بعض وجوه النهضة الآخرين على الاشتباك ودفع الامور الى الشارع، وبين هذين الحدّين، يقف الغنوشي عارضاً التسوية والتشارك في السلطة وملوحاً بالتصعيد، في مشهد يوحي بأنه يقف بانتظار ما ستؤول اليه قدرته على حشد الدعم والتأييد الداخلي والاقليمي ليبني على الشيء مقتضاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق