منذ حصول انفجار مرفأ بيروت في 4 آب من عام 2020، لم
تنفك الدعوات في لبنان من قبل سياسيين واعلاميين وناشطين بالمطالبة بتحقيق دولي في
القضية، ومؤخراً توجهت 53 منظمة حقوقية برسالة الى مجلس حقوق الانسان التابع للأمم
المتحدة، يطالبون بإنشاء بعثة تحقيق دولية في الانفجار، دعا فيها الموقعون إلى
"إنشاء بعثة تحقيق دولية ومستقلة ومحايدة"، معتبرين أنّه "مع
اقتراب الذكرى السنوية الأولى للانفجار، فإن الحجج لإجراء هكذا تحقيق دولي قد
ازدادت قوة".
وبالرغم من أن البرلمان اللبناني خذل اللبنانيين
بتذرعه بالحصانات لنواب ووزراء، وبقيام بعض النواب بالتوقيع على عريضة لتحويل
زملائهم الى هيئة قضائية غير موجودة أصلاً، هي مجلس محاكمة الرؤساء والوزراء، إلا
ان التحقيق الدولي المطلوب، وبحسب التجربة اللبنانية السابقة، لا يعطي أملاً
كبيراً بـ"إحقاق العدالة بمصداقية"، ومنع "التدخل السياسي"
كما تطالب المنظمات..
ولنا أن نشير الى ملاحظات عديدة حول تجربة التحقيق
الدولي الذي خبره اللبنانيون في قضية اغتيال الحريري في 14 شباط 2005، ونورد فيه
ما يلي:
-
تحقيق دولي استغرق 6 سنوات:
في 15/2/2005، أيْ بعد مرور يومٍ واحدٍ فقط على اغتيال
الحريري، أبدى مجلس الأمن اهتمامًا استثنائيًّا بما يجري في لبنان، وطلب من الأمين
العامّ "أن يتابع عن كثبٍ الحالةَ في لبنان، وأن يقدِّم على وجه السرعة
تقريرًا عن الملابسات والأسباب التي أحاطت بهذا العمل الإرهابيّ وما يترتّب عليه
من عواقب."
وعلى الأثر، أَرسل أمين عامّ الأمم المتحدة كوفي أنان
إلى بيروت بعثةً لتقصّي الحقائق، برئاسة بيتر فيتزجيرالد، فوصلت بعد عشرة أيّام.
وفي أقلّ من شهرٍ واحد، التقت البعثة مسؤولين وسياسيين لبنانيين، من الحكومة والمعارضة
في آن، ودرست إجراءات التحقيق، والإجراءات القانونيّة اللبنانيّة، وعاينت مسرح
الجريمة، وجَمعت الأدلّة، وقابلت الشهود، وأصدرت تقريرها.
وفي 7/4/2005، أقرّ مجلس الأمن الدولي القرار 1595
الذي قضى بإنشاء لجنة تحقيق دوليّة مستقلّة كي تساعد الحكومة اللبنانيّةَ على
إجراء التحقيق في العمل الإرهابيّ المرتكب 14 شباط، ولتساعد في تحديد هويّة
"مرتكبيه ومموِّليه ومنظِّميه وشركائهم".
هذا يعني أن مجلس الأمن الدولي، قد قام في غضون أقل من
شهرين، بإصدار بيان رئاسي، وإرسال لجنة فيتزجرالد، ثم إصدار قرار بإنشاء لجنة
تحقيق دولية مستقلة للتحقيق في العمل الارهابي في 14 شباط، على الرغم من أن مجلس
الأمن احتاج شهوراً عدّة لإقرار لجان تقصي حقائق في جرائم كبرى كالتطهير العرقي في
يوغسلافيا والابادة في رواندا. وبالرغم من
تلك السرعة في تشكيل لجنة التحقيق، وهي سابقة في تاريخ التحقيقات الدولية، استمر
التحقيق في اغتيال الحريري خمس سنوات و11 شهراً قبل أن يصدر القرار الاتهامي الأول
(قرار بلمار).
فكيف تعيب المنظمات في رسالتها على القضاء اللبناني
أنه مستمر في التحقيق لمدة سنة بدون إصدار قرار اتهامي؟
- تسييس في التأسيس
كشفت وثائق ويكيليكس أن وزير العدل السابق شارل رزق
أطلع السفير الاميركي جيفري فيلتمان على لائحة الأسماء المرشحة للتعيين قبل
إرسالها الى الأمم المتحدة، وتناقشوا فيها. وفي لقاء لم يكن هو الأول بين شارل رزق
والسفير فيلتمان، في 6 تموز 2007، يخبر فيلتمان بالتفصيل في الوثيقة المنشورة عبر
ويكيلكس، عن اجتماعه بشارل رزق، وكيف أن رزق أعطاه لائحة من 12 اسمًا، وطلب منه
تزكية بعض الأسماء. ويخبره رزق أن السنيورة أراد أن يطلع الحكومة اللبنانية على
الأسماء، ولكن رزق رفض ذلك مدّعيًا ان هذا يأخذ وقتًا، وان الأسماء ستكون معرضة
للخطر.. وهنا يخبر فيلتمان: ان رزق طلب منه أن يهمس الأميركيون في اذن موظفي الامم
المتحدة المسؤولين عن الموضوع، لتزكية أسماء معينة من بين الاسماء الأثني عشر،
فوعده فيلتمان بذلك، قائلاً: حالما تصل الاسماء الى الامم المتحدة، أخبرني بذلك
لأقوم بالاتصالات اللازمة...هذا يشير الى أن فيلتمان هو من اختار الأسماء وأطّلع
على اللائحة في حين لم يطلع عليها الوزراء في الحكومة اللبنانية.
وهكذا، إن التسييس المشكو منه في لبنان، غير بعيد عن
القوى الدولية التي ستمارسه بحسب مصالحها أيضًا.
- فساد، شهود زور،
وتضليل التحقيق
لم يخلُ التحقيق الدولي من تهم الفساد والذي بدأ مع
ديتليف ميليس والمتهم بالفساد في بلاده قبل تعيينه. كما انطبع مسار التحقيق الدولي
بفبركة شهود الزور الذين استخدمهم بعض الأطراف اللبنانيين، لتوجيه الاتهام الى
سوريا أو الى الضباط الاربعة، ونذكر منهم هسام هسام، العميل الاسرائيلي بن عودة،
زهير الصديق وغيرهم.
-
تبدل الجناة بحسب الظرف الدولي
منذ لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005
وإنشاء لجنة تحقيق من قبل الأمم المتحدة في حادث الاغتيال، انصب التركيز الأساسي
العلني للتحقيق على دمشق مترافقًا مع تصريحات اعلامية وسياسية تتهم دمشق مباشرة
بالاغتيال. وهكذا صدر التقرير الأول لـ "لجنة التحقيق الدولية المستقلة"
في تشرين الأول 2005، وخلص - كما كان متوقعًا له وقتها- بأن «خيوطاً كثيرة تشير
إشارة مباشرة إلى تورط مسؤولي أمن سوريين في حادث الإغتيال». ومنذ ذلك الحين حتى
بداية عام 2009، أي بعد مرور أربع أعوام على عمل التحقيق الدولي، لم يتم ذكر حزب
الله في أي من التقارير التي تصدرها "لجنة التحقيق الدولية المستقلة" كل
ثلاثة أشهر.
وفجأة، وبدون سابق مقدمات، نشرت مجلة "دير
شبيجل" في أيار 2009، مقالاً ذكرت فيه بقدر كبير من التفصيل كيف شاركت عناصر
من حزب الله في جريمة القتل، وكيف اكتشفت "لجنة التحقيق الدولية" ارتباط
أولئك العناصر في حادث الإغتيال. وتتحدث أن أحد عناصر الحزب "ارتكب طيشًا لا
يصدق" حيث اتصل بصديقته بواسطة هاتف خليوي تم استخدامه في عملية الإغتيال،
مما أتاح للمحققين فرصة تحديد الرجل.
وتوالت التسريبات، وتوالت السيناريوهات التي تربط حزب
الله باغتيال الحريري، وصولاً الى ما كشفه الامين العام لحزب الله عن لقاء بينه
وبين سعد الحريري لاقناعه بقبول تسوية؛ تقضي بإلاعلان بأن "عناصر غير
منضبطة" من حزب الله هي من اغتالت الحريري الأب مقابل تبرئة القيادة، لكن حزب
الله رفضها، ليتبين في نهاية المحاكمات أن المحكمة برأت الجميع، وبقي سليم عياش
المدان الوحيد، وتحوّلت قضيته الى الاستئناف.