راقب
العديد من المحللين والمتابعين لشؤون الشرق الأوسط، باهتمام زيارة الجنرال كينيث ماكينزي،
قائد القيادة الوسطى الأميركية، الى الشرق الاوسط والتعليقات التي أدلى بها خلال جولته.
وكان لافتاً التحذير الذي اطلقه ماكينزي من أنه " من المرجح أن تعمل روسيا والصين
على توسيع نفوذهما في الشرق الأوسط حين تسحب الولايات المتحدة قواتها من المنطقة"،
وسيعمدون الى استغلال الفراغ الذي يمكن أن يتركه الأميركيون في المنطقة. وبحسب ماكينزي،
"ستحاول روسيا بيع أنظمة دفاع جوي وأسلحة أخرى إلى أي دولة تتطلع إلى الشراء،
بينما يتمثل هدف الصين طويل المدى في توسيع القوة الاقتصادية وإنشاء قواعد عسكرية في
الشرق الأوسط في نهاية المطاف".
بالمبدأ،
هناك شيء من الصحة في هذا التحذير، إذ إن أي فراغ استراتيجي يتم تركه في أي بقعة من
العالم، ستحاول الدول المهيمنة الأخرى، سواء كانت دول عظمى أو إقليمية، أن تغتنم تلك
الفرصة المؤاتية لتوسيع نفوذها. ويمكن بالفعل أن تقوم كل من روسيا والصين باستغلال
مبيعات الأسلحة وعقود الاستثمار المختلفة كوسيلة لكسب التأييد في المنطقة.
وبالرغم
من ذلك، وكما يبدو واقع الحال في الشرق الأوسط اليوم، ليس من السهل تخطي أو إزاحة نفوذ
الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، حتى في ظل انسحاب الجيش الأميركي من افغانستان.
وهنا، يمكن أن نشير الى أن التحذيرات والتصريحات التي يطلقها المسؤولون الأميركيون
( ومنهم ماكينزي) قد لا تعكس دائماً الواقع الميداني والسياسي السائد، بل قد تكون جزءًا من التصريحات التي توظّف في كثير
من الأحيان بالتنافس الداخلي، وكجزء من الصراع بين الأجهزة التي تتسم بالتعقيد والتشابك
داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
وهنا،
يجب أن نشير الى أنه في العلاقات الدولية، تصاغ استراتيجيات السياسة الخارجية، بموجب
نمطين:
- النمط الأول: نموذج "المنارة"
وفي
هذا النمط التقليدي، يكون هناك استراتيجية واضحة محددة، متعددة الوجوه والمراحل، مع
أهداف طويلة وقصيرة ومتوسطة الأجل، على أن تلعب الاستراتيجية والخطة المرسومة سلفاً
دور "المنارة" التي تقود كل العمليات الخارجية في منطقة محددة.
هذا
النمط، تستخدمه الصين بشكل أساسي، حيث يتم اعتماد خطط طويلة المدى وخطط خمسية، وخطط
سنوية. وتعمل جميع الأجهزة من عسكرية ودبلوماسية وسياسية واقتصادية وتنموية الخ. في
نسق متكامل لتحقيق الأهداف المرسومة، مسترشدة بضوء الاستراتيجية المرسومة من قبل الدولة
المركزية، التي تلعب دور المنارة.
- النمط الثاني: نموذج " المرايا"
بموجب
هذا النمط، يقوم صنع استراتيجية السياسة الخارجية بناء على تعدد المصالح والمجموعات
ومجموعات الضغط والقطاع الخاص والمؤسسات الحكومية، التي يكون لكل واحدة أهدافها ومصالحها،
وتتنافس فيما بينها للتأثير على السياسة الخارجية وقراراتها، وتكون الاستراتيجية الموضوعة
انعكاساً ومرآة لمجموعات متعددة من المصالح وتنافسها بين بعضها البعض.
ويُعتمد
هذا النموذج بشكل أساسي في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتنافس اللوبيات ومجموعات
المصالح للتأثير على السياسة الخارجية، ولعل تضارب مصالحها هو الذي - غالباً - ما يولّد
انطباع لدى العامة بعدم تناسق الاستراتيجيات
الأميركية، وهو أمر غير صحيح. لا شكّ أن هناك مبادئ وثوابت في الاستراتيجيات الأميركية
في صنع السياسات الخارجية، مع الاحتفاظ بهامش كبير لأصحاب المصالح للتأثير وفرض وجهة
نظرهم حول الوسائل والسبل الأمثل لتحقيق تلك الأهداف.
إنطلاقاً
مما سبق، يمكن القول أن التحذير الذي أطلقه
ماكينزي حول الانسحاب العسكري الأميركي من الشرق الاوسط، يعكس وجهة نظر جهة أو جهات
ضمن المؤسسات الأميركية، وهو قد يكون رسالة الى أصحاب ومجموعات المصالح الأخرى أو لأصحاب
القرار لتغليب وجهة نظر البنتاغون على وجهات النظر الأخرى الداعية الى انسحاب عسكري
من الشرق الأوسط.
مع
العلم أن النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط لا يرتبط بعدد الجنود المنتشرين في المنطقة،
فالحروب الجديدة (الحروب الهجينة) لم تعد تعتمد على الآليات العسكرية فحسب، بل هي تعتمد
على التكنولوجيا، والطائرات المسيّرة وغيرها، بالاضافة الى الوسائل السياسية والتكنولوجية
والاقتصادية وأدوات التأثير عبر المجتمعات المدنية وغيرها. واليوم، إن الولايات المتحدة
لا تقاتل في حروب تقليدية، وانخراطها العسكري لم يكن يوماً يحتاج لأعداد كبيرة من الجنود
خاصة في ظل اعتماد مبدأ عسكري منذ ما بعد حرب العراق 2003، وهو " لا جنود في الميدان"
no boots on the ground .
أضف
الى ما سبق، أن إدارة بايدن لم تعلن - لغاية تاريخه- عن وجود أي خطة أميركية للانسحاب
من الخليج أو من سوريا أو العراق. وماكينزي نفسه كان قد أعلن في وقت سابق أن الولايات
المتحدة: "لن تخفض عديد قواتها في العراق، بناءً على رغبة الحكومة العراقيّة،
بل قد تزيدها".
وفي كل الأحوال، وبغض النظر عن الانسحاب العسكري المحدود الذي ستقوم به الولايات المتحدة، يبدوالأكيد اليوم أن هناك خطة واضحة للرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، بتهدئة الأمور في الشرق الأوسط والعودة الى الاتفاق النووي الايراني مع حفظ مصالح الولايات المتحدة الأميركية، للتفرغ لجبهات ثلاث تبدوان أكثر أهمية: تقوية الداخل والقيام بما يجب من بنى تحتية وغيره لعودة أميركا الى سوق المنافسة العالمية أكثر قوة، احتواء النفوذ الصيني في العالم والتفوق على الصين اقتصادياً وتكنولوجياً، واحتواء النفوذ الروسي وتحجيم سوق السلاح الروسي الذي شهد قفزة نوعية هائلة من عام 2008 ولغاية اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق