في الخامس من آذار، يحلّ البابا ضيفاً على العراق، في رسالة سلام ومحبة
يرسلها للمنطقة بأكملها بمسيحييها ومسلميها، ولفتة إنسانية وجدانية يخص بها مسيحيو
العراق الذين تعرضوا لأبشع أنواع التنكيل والتهجير، خاصة بعد غزوة داعش عام 2014.
وبالرغم من رسالة السلام والتسامح والمحبة التي يريد البابا بثها في المنطقة،
إلا أن الدلائل الوجدانية لزيارته، لا تنفي أن هناك جوانب سياسية هامة لها، حيث يدرك
البابا أن مسيحيو المشرق يتعرضون لمؤامرة كونية تهدف الى اقتلاعهم من أرضهم، وتهجيرهم،
في وقت تتراوح مواقف الدول الغربية بين التساهل، والتواطؤ، وغض النظر.
لا شكّ أن المجازر التي ارتكبتها داعش بحق المسيحيين وباقي الأقليات العراقية،
ساهمت في تقلص أعداد المسيحيين وهجرتهم، إلا أن هجرة العراقيين المسيحيين تمّت على
مراحل، على الشكل التالي:
1- مرحلة التسعينات: الحصار الدولي على العراق
في تلك الفترة، هاجر المسيحيون كما معظم العراقيين الآخرين، بتأثير الازمات
الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي سببتها عقوبات الامم المتحدة على العراق، ضمن
سياسة "النفط مقابل الغذاء".
2- مرحلة الاحتلال الأميركي للعراق (2003) ولغاية
عام 2014
خلال هذه الفترة، حصل تهجير منهجي بوتيرة بطيئة، واستنزف الوجود المسيحي
في العراق وسط صمت عراقي وعربي ودولي مشبوه. تمّ تهجير المسيحيين في هذه المرحلة عبر
مزيج من الترهيب والترغيب، فمع تعرّض الكنائس والأفراد لعمليات إرهابية وعمليات قتل
ممنهجة، عمد الغرب الى تقديم إغراءات لمسيحيي العراق للهجرة. وتضاءل عدد المسيحيين
في هذه الفترة الزمنية بنسبة 83 في المئة، من حوالي 1.5 مليون قبل الاحتلال إلى
250 ألف فقط، قبل غزوة داعش عام 2014.
المؤسف في مرحلة تهجير العراقيين المسيحيين الثانية أن أطرافاً عدّة ساهمت
في تلك المأساة، فالحكومات الغربية فتحت أبواب قنصلياتها وسفاراتها لمنحهم تأشيرات
الهجرة، وبعض المرجعيات المسيحية المشرقية، خصوصاً اللبنانية منها، ساهمت في جعل لبنان
مقراً مؤقتاً يستجلبون المسيحيين العراقيين إليه، تمهيداً لهجرتهم الدائمة إلى الغرب،
في تواطؤ صريح وواضح و"مقبوض الثمن" لتهجير المسيحيين من المشرق.
ويشير العديد من التقارير إلى أن المؤامرة على الوجود المسيحي في العراق
كانت مشتركة، فالبعض يشير إلى أن الأكراد طمعوا بهجرة الاستثمارات المسيحية إلى أراضيهم،
والغرب اعتبرهم "مجرد أضرار جانبية" في الحرب على الإرهاب، والشيعة والسُّنة
الراديكاليون مارسوا عليهم إرهابهم، بسبب اعتبارات عراقية محض، فبعض المجموعات الشيعية
اتهمت المسيحيين بأنهم كانوا من الأقليات المحظوظة في عهد صدام حسين، أما السُّنة الراديكاليون
فاعتبروا أن المسيحيين "جزء من الحملة الغربية والأميركية" على العراق، بسبب
الدين.
3- مرحلة ما بعد غزوة "داعش" عام 2014
في هذه المرحلة لم يعد قتل المسيحيين يتمّ بصمت، بل بات قتلاً مدوياً
تُسمع أصداؤه في أرجاء المعمورة، فتمّ قتل المسيحيين وسبي نسائهم واحتلال أرزاقهم،
كما اليزيديين وباقي العراقيين. أدى هجوم داعش عام 2014 إلى نزوح أكثر من 125 ألف مسيحي
من أرض أجدادهم التاريخية، بحسب رئيس أساقفة أربيل، المطران بشار متى وردة. والمؤسف
أن العالم لم يتحرك لنصرة الاقليات العراقية إلا بعد أن كانت داعش قد استولت على محافظات
عراقية وطردت أهلها منها، ونكّلت بهم.
وهكذا، تأتي زيارة البابا اليوم- ولو متأخرة- لتؤكد رفض تهجير المسييحيين
من المشرق، فالمسيحي جزء لا يتجزأ من المحيط، عليه أن يكرّس وجوده في بلاده وينفتح
على المكونات الأخرى، فهو "ملح الأرض"، ويجمعه بها وحدة المصير المشترك وصناعة
المستقبل سوياً.
أما بالنسبة للرسائل السياسية التي تثيرها زيارة البابا، فالمطلوب من
المسيحي العراقي، كما المسيحي المشرقي، أن يدرك أهمية هذه الزيارة ومضامينها، فيهبّ
للدفاع عن نفسه ووطنه، وينخرط في الدفاع عن قضايا الوطن المحقة، فالحياد المسيحي في
قضايا الأمة والوطن لم يجنبهم القتل والاجتثاث والتنكيل سابقاً، ولن يجنّبهم ذلك في
المستقبل وسط صمت العالم وتفرجه على مصير أسود يلف الجميع معاً، مسيحيين ومسلمين.
ما نفهمه من زيارة البابا للعراق في وقت يعيش فيه المشرق أسوأ أيامه وأصعبها،
أن المطلوب من مسيحيي المشرق وقفة جرأة استثنائية، تتطلب منهم الدفاع عن مصيرهم ووجودهم
وأرضهم والعيش فيها بكرامة. وإن فُرض عليهم الموت فليموتوا واقفين يدافعون عن كرامتهم
ووجودهم بدل أن يموتوا منحوري الرقاب أذلاء.. ويبقى الموت واحد، وعليهم أن يختاروا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق