كشفت السنوات المنصرمة في العقد الماضي، خاصة منذ الأزمة الاقتصادية العالمية
عام 2008، أن المجتمعات في العالم أجمع هشّة، وأن النظام الرأسمالي يحمل بالفعل بذور
انهياره من الداخل، كما تنبأ كارل ماكس يوماً.
لكن جائحة كورونا وارتفاع اليمين الذي سبقها، والذي شهدته أوروبا وأميركا
منذ عام 2016، أثبت أن المجتمعات الغربية والطبقات السياسيةفيها لا تختلف كثيراً عن
أولئك الذين يحكمون دول العالم الثالث، ولذلك مؤشرات عديدة:
- استثمار أي أزمة للتصويب على الخصوم، ولعل الاتهامات
المتبادلة خلال فترة جائحة كورونا أثبتت بما لا يقبل الشكّ أن استراتيجية الشعبويين
في كل العالم، بدون استثناء، هي الاستفادة من أي مشكلة أو كارثة طبيعية أو وباء لاستثمارها
ضد السلطة السياسية واتهامها بالتقصير.
- يلاحظ المراقب للحملات السياسية والاعلامية في
أوروبا وأميركا، انحدار مستوى التخاطب السياسي واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لشيطنة
الخصوم، واستخدام الجيوش الالكترونية لسحق المعارضين، واختراع المعارك اليومية التي
تبقي على التشنج السياسي مستمراً بدون توقف.
وكما في الغرب، كذلك في جميع دول العالم، تنتشر مجموعات سياسية وإعلامية
تصنّف نفسها بأنها صاحبة الرأي الصحيح سياسياً politically
correct، وتنصّب نفسها الحَكَم
وصاحبة الكلمة الفصل، في ما يمكن قوله ولائق سياسياً وما لا يمكن قوله.
وبالرغم من أن هناك العديد من الحملات العالمية الأخلاقية الجيدة لمكافحة
العنصرية، إلا أن ذهاب العديد من السياسيين و"قادة الرأي" لوسم كل رأي مخالف
لهم بالعنصري، ومحاولات هؤلاء الراديكالية لإسكات أي صوت معارض أو مخالف للرأي السائد
أو "الصحيح سياسياً"، حوّل هذا النمط من الحملات الى ما يشبه الأساليب
"الفاشية" الحقيقية.
- بالرغم من أن استخدام الجيش في مواجهة الأزمات
الداخلية والمحافظة على السلم والاستقرار، هو من سمات دول العالم الثالث، حيث تتمتع
الجيوش بنفوذ متعاظم وميزانيات كبرى وتدريب خاص يجعلها قادرة على إدارة الأزمات بطريقة
أفضل من المؤسسات المدنية، إلا أن اللافت كان استخدام الجيوش للمساعدة في مواجهة وباء
كورونا في دول العالم الصناعية المتقدمة كالاتحاد الاوروبي، وفي الولايات المتحدة بعد
مجيء بايدن.
- خلال سنة 2020، وخلال فترة السباق الانتخابي بين
دونالد ترامب وجو بايدن، انكشف للعلن الكثير من الهشاشة والتمييز العنصري والهوة الطبقية
بين الأميركيين. وكانت محاولة ترامب الاخيرة لقلب نتائج الانتخابات، عبر تشجيع أنصاره
على "غزو" الكونغرس، مؤشراً واضحاً على أن الطبقات السياسية تتشابه في العالم
أجمع ، فحين تجد أنها قادرة على تخطي القانون والنظام وأن لا سلطة تحدّها فإنها لن
تتوانى عن أن تتعسف في إستخدام السلطة.
وهنا يأتي الفارق الحقيقي بين دول العالم، سلطة القانون!.
لا شكّ إن ما نفتقده في بلداننا هو سلطة القانون، وهو ما يجعلنا نغرق
بالتخلف والفساد ونهب المال العام ويقضي على أي أملٍ بالإصلاح.
ما أنقذ الولايات المتحدة الأميركية من محاولات ترامب الانقلابية هو بالضبط
سلطة القانون التي بقيت أعلى من كل شيء؛ فالمحاكم المختلفة على مستوى الولايات ردّت
طعون ترامب الانتخابية. وسلطة القانون في الولايات المتحدة هي التي منعت سيادة منطق
الزبائنية التي حاول ترامب أن يدخلها الى النظام الاميركي (أنا أعينّك لذلك عليك الولاء
لي شخصياً). حتى قضاة المحكمة الاتحادية الذين عيّنهم ترامب ومنهم خلال السنة الأخيرة
لعهده (في مخالفة واضحة لكل الأعراف القائمة)، بقي الدستور والقانون بالنسبة لهم هو
الأساس، لانهم يعرفون أن إسقاط القانون في الولايات المتحدة يعني نهايتها ونهايتهم
الشخصية.
من هنا يمكن القول، إن معيار تقدم الدول مرتبط باحترام القانون وقوة القانون
فيها. الغنى والفقر الذي تتمتع به الدول لا يعني شيئاً في مقياس التصنيف بين دول متقدمة
ودول متخلفة، ولنا في الدول التي تمتلك الكمّ الهائل من الموارد، والتي تعاني من التخلف
والفساد والفقر أكبر دليل على ذلك.
أن التخلف والتبعية التي تعاني منها دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية،
سببها بالدرجة الاولى غياب سلطة القانون، التي جعلت من المسؤول أعلى من المحاسبة والمساءلة،
وأدخلت القهر في نفس المواطن الذي يشعر بأن مخالفته للقانون هي بمثابة "رد اعتبار"
على حقوقه المنتهكة يومياً، وهي التي جعلت الزبائنية وتبادل المصالح بين المرشح السياسي
والزبون (الناخب) هي الصيغة الحاكمة لحكم الدولة وتسيير شؤونها.
لهذا، إن الوصفة الأولى واللبنة الأساسية لمحاولة التغيير الجدي في الدول
العربية ليس في إضاعة الوقت في تغيير هياكل السلطة السياسية التي تتشابه بين السلطة
والمعارضة الى حد كبير. إن الاستفادة من تجربة الولايات المتحدة في منع الانقلاب الذي
قاده ترامب، ومنع التحوّل الى حكم فاشي يقوده شخص واحد بشكل مخالف للقانون، هو في تمكين
القضاء والدفع نحو استقلاليته التامة، وتأسيس لمؤسسات فاعلة حيث يسمو القانون على ما
عداه. بدون ذلك، سنبقى في دوامة تغيير وجوه وأشخاص بدون تغيير فعلي حقيقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق