ليلى نقولا
يقف
العالم متفرجاً على المشاهد الَّتي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام العالمي
إثر "غزوة الكونغرس" التي قام بها أنصار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبعد
الاتهامات التي أطلقها ترامب وأنصاره إثر خسارته الانتخابات، والتي تدّعي أنَّ الانتخابات
سرقت، وأن تزويراً على نطاق واسع حصل، على الرغم من أن التدقيق التقني وقرارات المحاكم
في الولايات أعلنا عدم وجود تزوير، وأشارا إلى أن نتائج الانتخابات صحيحة مئة في المئة.
وبعد
هذه المشاهد، يتحدث العديد من المحللين في أنحاء العالم، وبعضهم في العالم العربي،
عن "انهيار" سيحدث في الولايات المتحدة، ويرون أن الانقسام الحاد الذي يعيشه
المجتمع الأميركي، إضافةً إلى الأزمة الاقتصادية، سيؤديان إلى انهيار أميركا، كما حصل
للاتحاد السوفياتي سابقاً.
يشير
التاريخ بشكل عام إلى أنَّ صراع الهويات الداخلي يؤثر بشكل سلبي في قوة الدولة، وأن
هذا الصراع يبرز بشكل أكبر حين تضعف السلطة المركزية، وخصوصاً إذا ما ترافقت مع أزمة
اقتصادية، لكن فرضية القياس هنا لتأكيد نظرية الانهيار الأميركيّ "الحتمي"
دونها ملاحظات عدّة، وخصوصاً إذا ما تمّت مع دراسة للتاريخ الأميركي والانقسامات المجتمعية
ومدى قدرتها على تأكيد حتمية الانهيار. وهنا يمكن العودة إلى المعطيات التالية:
1- الحديث عن انفصال الولايات
لا
شكّ في أنَّ العديد من مواقع التواصل الاجتماعي أبرز إلى العلن حديثاً أميركياً عن
الرغبة في الانفصال، وخصوصاً بعد خسارة ترامب. ولعل الأبرز في هذا الإطار تصريح رئيس
الحزب الجمهوري في تكساس آلان ويست: "ربما يتعيّن على الدول التي تلتزم بالقانون
الترابط معاً وتشكيل اتحاد من الولايات التي ستلتزم بالدستور" (بعد رفض المحكمة
العليا النظر في قضية "تكساس ضد بنسلفانيا" لإبطال نتائج انتخابات 2020 في
أربع ولايات).
لكنَّ
هذا الحديث ليس جديداً، بل إنَّ العديد من الأميركيين عادةً ما يبدون رغبتهم في الانفصال
أو الهجرة إثر الانتخابات الرئاسية. في العام 2009، وبعد انتخاب باراك أوباما رئيساً،
تحدث حاكم تكساس (بشكل مبطن) عن حق الولاية في مغادرة الاتحاد. وبعد انتخاب دونالد
ترامب في العام 2016، تحدث الكثير من الليبراليين عن رغبتهم في الهجرة إلى كندا (لم
يحصل)، وكثر الحديث عن خروج كاليفورنيا من الاتحاد.
ولفترة
طويلة من الزمن، حاول العديد من الأميركيين الدفع لخروج ولاياتهم من الاتحاد، وباءت
جميع محاولاتهم بالفشل، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، مينيسوتا في العام
1997 (المطالبة بالانفصال والانضمام إلى كندا)، وتظاهرات فلوريدا 1982، والدعوى التي
رفعت أمام المحكمة الفيدرالية في ألاسكا في العام 2006 لتأكيد حقّ الانفصال، وحركة
كاليفورنيا للانفصال "CALEXIT" التي بدأت في
العام 2010...
كل
ما يقال اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي لا يعدو كونه كلاماً سياسياً وشعبياً، إذ
لا يوجد أي أساس قانوني تستطيع من خلاله ولاية أن تنفصل عن الاتحاد، علماً أن دستور
الولايات المتحدة لا ينصّ بأي شكل من الأشكال على أي إجراءات قانونية يمكن أن تستخدمها
الولايات للانفصال، وهو يتضمن مواد قانونية حول ضمّ ولايات جديدة أو تقسيم الولايات
القائمة، لكن لا يذكر مطلقاً حقّ الانفصال.
وفي
تفسير الدستور، أقرّت المحكمة الفيدرالية العليا في قضية "تكساس ضد وايت"
في العام 1869 بعدم جواز انفصال الولايات.
2- الانقسام المجتمعي الأميركي
المؤكّد
أنّ مجيء ترامب إلى السّلطة أدى إلى زيادة الاستقطاب الأميركيّ، وعمّق انقسامهم
"الإيديولوجي" إلى حدٍ كبير، وأنّ استمراره في السلطة لأربع سنوات إضافية
كان ليؤدي إلى مزيد من الانقسام الذي يهدد الأمة الأميركية بشكل عام، لكن كتاباً حديثاً
للمؤرخ الأميركي ريشارد كرايتنر صادراً في أيار/مايو 2020 يدرس تاريخ الانقسام المجتمعي
الأميركي على مدى 400 عام، يؤكّد "أن أسس الأمة الأميركية كانت دائماً هشة"،
ويشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية منذ تأسيسها، أي منذ تأسيس المستعمرات الـ13،
لم يكن لديها هوية موحدة أو هدف مشترك قبل الثورة. ويضيف: "لفهم الانقسامات السياسية
الحالية بشكل كامل، يجب أن نتوقف عن إخبار أنفسنا بأنه كانت هناك لحظة في ماضينا لم
نكن فيها منقسمين بشكل جدي".
والأهم
في الكتاب تأكيده "عدم حصول أي محاولات جدّية لتوحيد (الأمة) إلا وسط تهديدات
خارجية، حقيقية أو متصورة". تاريخياً، "لقد ربط الخوف، وليس حب الوطن، الأمة
ببعضها البعض".
أما
الباحث ديفيد هندريكسون، فيؤكد أن الدستور الأميركي كان قبل كل شيء "ميثاق سلام"
بين الولايات، إذ "تمّ الاتفاق على أنه لا ينطلق من منطلق الهوية الوطنية المشتركة،
إنما لمنع القوى الأجنبية من استعادة السيطرة على الدول المستقلة حديثاً".
3- التعصب الديني
كان
تأييد الكنائس الإنجيلية للرئيس ترامب العامل الأبرز في كسبه هذا الكمّ من الأصوات
على مستوى الاتحاد، علماً بأن بدء صعود هذه المجموعات كان أثناء حملة ريغان الانتخابية
تحت شعار "الولادة مرة أخرى كمسيحيين".
واستمرَّ
صعود اليمين الديني المتطرف بشكل متسارع، إذ تشير إحدى الدراسات إلى أن التصويت الرئاسي
في العامين 1988 و1992 تأثر إلى حد كبير بالرؤى والتوجهات التي أطلقتها هذه المجموعات
الراديكالية، إلى أن أتى الرئيس جورج دبليو بوش إلى السلطة على أرضيّة اليمين الديني
وتصويته المرجح، فشاركت قوى اليمين الديني المحافظ في الإدارة الأميركية للمرة الأولى.
إذاً،
من خلال ما سبق، وعلى الرغم من حدّة الاستقطاب الإيديولوجي الذي تعيشه أميركا، والذي
طغى تأثيره على العوامل الاقتصادية التي كانت عاملاً مرجحاً في الانتخابات الأميركية
على مدى عقود، وعلى الرغم من أن الأميركيين - بلا شكّ - يعيشون أزمة قيادة سياسية حقيقية،
فإنَّ توقّع "انهيار أميركا" في المدى القصير لا يبدو واقعياً.
إنَّ
المشاكل التي تعانيها الولايات المتحدة الأميركية، والأثر السلبي الذي تركه ترامب داخلياً
وخارجياً، سيجعل السياسة الخارجية الأميركية أكثر تواضعاً وأقل هجومية، وستحاول الإدارة
الجديدة - وفي خضّم انشغالها بمشاكلها الداخلية - المحافظة على الاستقرار وترتيب إدارة
"الانكفاء المرحلي لمحاولة العودة إلى الساحة العالمية بشكل أقوى"، لكن هل
ينتظر الزمن والنظام الدولي والدول الأخرى أميركا لتعيد ترتيب نفسها لحكم العالم من
جديد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق