استلم جو بايدن السّلطة كرئيس للولايات
المتحدة الأميركيّة، وأعلن أنَّ مهمته الأولى هي توحيد الولايات المتحدة الأميركية
بعد أن شهدت انقساماً غير مسبوق عزّزه ترامب بسياساته الشعبوية التقسيمية وخطاباته
الحادة والاتهامات التي ساقها حتى آخر يوم من عهده بأنَّ الانتخابات مزوّرة.
ولعلَّ ما يعزز قلق الديموقراطيين
من عدم قدرة بايدن على الوفاء بعهده ومصالحة المجتمع الأميركي وتوحيده، هو وجود
"الظاهرة الترامبية" التي استطاعت أن تفرض وجودها في المجتمع الأميركي، بدليل
أنَّ الرئيس ترامب عزَّز أصواته الانتخابيّة، وحصد حوالى 74 مليون صوت في العام
2020، في تقدم واضح بحوالى 11 مليون صوت إضافيّ عن انتخابات العام 2016.
ولمعرفة مدى صواب هذا القلق الديموقراطي
الأميركي، يجب تشريح القاعدة الانتخابية التي انتخبت دونالد ترامب وأعطته عشرات الملايين
من الأصوات، فمن هم هؤلاء؟
- حزب الشاي
هو حركة شعبوية محافظة نشأت من رحم
الحزب الجمهوري في العام 2009، بعد تولي أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأميركية.
أطلق أعضاؤها على أنفسهم اسم "حزب الشاي" تيمّناً بالحركة التي نشأت في العام
1773، حين اعترض الأميركيون على دفع الضرائب لبريطانيا من دون تمثيل، من خلال رمي الشاي
البريطاني الموجود في السفن الراسية في الميناء، والذي أدى في ما بعد إلى حركة أوسع
أدّت إلى استقلال أميركا عن العرش البريطاني.
من أبرز رموز هذا الحزب سارة بالين
ورون بول وتيد كروز وغيرهم. حارب هؤلاء خطّة أوباما للضمان الصحّي الشامل، وتبنّوا
أفكاراً راديكالية محافظة على "يمين" الحزب الجمهوري، وهم ينادون، شأنهم
شأن معظم المحافظين، بتشديد سياسات الهجرة، وإقرار قوانين ضد الإجهاض، وتقليص التدخل
الحكومي، وزيادة موازنة الجيش الأميركي. بالنسبة إلى السياسة الخارجيّة، يؤمن هؤلاء
بـ"الاستثنائية الأميركية"، ويدعون إلى خفض المساعدات الخارجية وتخفيف انخراط
أميركا العسكري في الخارج.
لا شكّ في أنَّ ترامب عرف كيف يجسّد
هذه الأفكار، فتحدَّث عن عظمة أميركا واستثنائيّتها، ولاحظنا أنّه - على الرغم من جائحة
كورونا والحاجة إلى الضمان الصحّي الشامل - استمرَّ بمهاجمة خطّة أوباما الصحّية من
دون تقديم بديل لها، كما خفض المساعدات الخارجية وقرّر سحب الجنود الأميركيين من مناطق
النزاع.
وهكذا، يبدو أنَّ حزب الشاي الّذي
تراجع الحديث عنه في العام 2012، والذي يشير العديد من الباحثين إلى أنَّ أفكاره خيّمت
بشكل عام على كامل الحزب الجمهوري في العام 2019، تحوّل إلى "جماعة ترامب"
أو "طائفة ترامب الخاصة"، كما يصفها العديد من المحللين الأميركيين.
- الكنائس
الإنجيليّة
لا شكّ في أنَّ ترامب خدم الكنائس
الإنجيلية ومؤيّديها بشكل خاص. في السياسات الداخلية، عيّن قضاة محافظين وحاول تمرير
قوانين محافظة... أما في السياسة الخارجية، فقد قام بتحقيق النبوءات التوراتية التي
يؤمن بها هؤلاء بخصوص قيام "إسرائيل" التي تمهّد - في رأيهم - لعودة المسيح
مرة أخرى.
- أنصار اليمين
الشّعبوي
من الأسباب الأخرى المحفّزة للتصويت
الانتخابي، خطابات اليمين الشعبوي التي اعتمدها ترامب، والتي خاطبت غرائز كثر من مختلف
المجموعات العرقية.
لا شكّ في أنَّ العديد من الأميركيين
والمواطنين حول العالم تأثّروا بشكل أو بآخر بعولمة الاقتصاد وانفتاح الحدود، وباتوا
يشعرون بالتهميش والاغتراب في مجتمعاتهم، وباتوا أكثر قلقاً من الناحية الاقتصادية
والثقافية – الهوياتية. لذا، باتوا أكثر انجذاباً وتأثراً بخطابات اليمين الشعبوي في
الغرب بشكل عام.
وهكذا، حصد ترامب أصوات الّذين دغدغت
عواطفهم وغرائزهم مهاجمته لما أسماه "اليسار الراديكالي"، وسياساته العنصريّة،
وتلك المناهضة للهجرة والداعية إلى بناء جدار مع المكسيك، وتعابيره التي تنطوي على
كره الآخرين، والأهم بالنّسبة إلى العديد من هؤلاء أنهم ضاقوا ذرعاً بادّعاءات التفوق
الأخلاقي، وخصوصاً من جانب النخب الليبرالية في الغرب، التي تعتبر أنها تملك
"الحقيقة السياسية المقبولة" (political correctness).
- المدفوعون
بالهمّ الاقتصاديّ
لا شكّ في أنَّ جائحة كورونا ضربت
الاقتصاد الأميركيّ بشكل لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن الاتّهامات
التي تساق ضد ترامب من قبل الديموقراطيين بأنَّ الكارثة الاقتصادية مردّها عدم تعامله
بشكل صحيح مع الجائحة، لم تجد لها صدى لدى مؤيّديه الذين يعتبرون أن دعوته لفتح الاقتصاد
كانت كافية لتخفيف الأزمة، وأن إغلاق الأسواق وفرض الحجر الإلزامي كانا السّبب في الانهيار
الاقتصاديّ.
- المدفوعون
بالخوف من خسارة الوظائف
اعتمد ترامب في سياساته فرض عودة
الشركات إلى العمل في الولايات المتحدة، ما يؤدي إلى انخفاض مستوى البطالة في الداخل.
ولا شكّ في أنَّ هذا الأمر ساعد الكثير من العمال الأميركيين قبل الجائحة.
من ضمن هذه الفئة أيضاً، حصد ترامب
أصوات معظم من يسكنون في المناطق التي تكثر فيها الحقول النفطية والبتروكيمائية، والتي
تتسبّب بالتلوث البيئي فيها. ونلاحظ أنَّ الخوف من خسارة الوظائف في تلك المناطق كان
الهاجس الأكبر الذي دفع البيض والملوّنين والمواطنين من أصول لاتينيّة إلى التصويت
لترامب، بسبب وعده بالإبقاء على تلك الوظائف وخروجه من اتفاقيات المناخ التي اعتبرها
مضرّة بالوظائف والشركات الأميركيّة.
إذاً، نستنتج أنَّ التركيبة السكّانية
للمصوّتين لدونالد ترامب متنوّعة ومعقّدة، وفيها نسب كبيرة من الرجال البيض غير الحاصلين
على تعليم جامعي، والمحافظين، وسكّان الأرياف، وذوي الأصول الإسبانية الذين يكرهون
الأفكار الاشتراكية، والجماعات الإنجيلية، ورجال الأعمال والأثرياء الذين لا يريدون
دفع الضرائب، والعمال...
وبناءً عليه، استطاعت الظّاهرة الترامبيّة أن تتغلغل في المجتمع الأميركيّ، ويبدو أنّها ستبقى لبعض الوقت. لذا، من المنطقي أن نجد استمرار الحزب الديموقراطي بمحاولة محاكمة ترامب في الكونغرس، على الرغم من خروجه من السلطة، وذلك لمنعه من إمكانية شغل أيّ منصب عام في المستقبل، ومنعه أيضاً من المشاركة في السباق الرئاسي في العام 2024.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق