تزامن وصول الرئيس ميشال عون مع وصول دونالد ترامب الى
الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية. ولقد جاءت إدارة دونالد ترامب وفي تصورها الخاص
"القطع مع سياسات باراك أوباما" التي أضرّت بمصالح الولايات المتحدة في العالم،
وأظهرتها "عاجزة" أمام أعدائها مثل إيران وحلفائها وفنزويلا وكوبا وغيرها،
و"مستغَلة ومنهوبة" من قبل آخرين كالاتحاد الاوروبي والصين وكندا، و"تاجر
فاشل" في علاقاتها مع الخليج.
ولم يكن لبنان بطبيعة الحال خارج هذا التفكير، إذ ساد
اعتقاد لدى الإدارة الجديدة بأن مرحلة أوباما وتراخيه سمحت بتكريس نفوذ ايران، وسيطرة
حزب الله على لبنان ووصول حلفائه الى السلطة. وفي الوقت المستقطع قبل استقرار الإدارة
الأميركية الجديدة، افتتح عهد الرئيس عون بعملية فجر الجرود - التي أصرّ عليها الرئيس
عون بالرغم من المطالب الأميركية بالتأجيل- فتنفس لبنان الصعداء، بالتخلص من الخطر
الارهابي الذي عاشه منذ بداية الحرب السورية عبر استقدام المقاتلين الارهابيين لفرض
ميزان قوى عسكري جديد ضاغط يهدد البيئة اللبنانية.
ومع بدء النصف الثاني من عام
2017، واستقرار الإدارة الاميركية، ومع إدراك الجميع أن ميزان القوى العسكري داخلياً
في لبنان لا يصب في مصلحة حلفاء الولايات المتحدة، بدأت الضغوط الاقتصادية، أولاً في
قرارات مصرف لبنان خلال خريف عام 2017، بإيقاف القروض الإسكانية والتي توقفت معها
48 مهنة محلية وحدّت من قدرة الشباب على الزواج وفرملت اندفاعة الاقتصاد اللبناني،
ثم قرار رفع سعر الفائدة على الودائع، ما انتج اختلالاً هائلاً في بنية الاقتصاد اللبناني
وعطّلت الاستثمار المحلي لصالح الفائدة الريعية.
ولا شكّ ان دعوة الحريري الى السعودية في تشرين الثاني
2017، وإذلاله وإجباره على الاستقالة، كانت تهدف الى تفجير فتنة سنية شيعية في لبنان،
فشلت في تحقيق أهدافها، بعد أن قام رئيس الجمهورية بامتصاص الصدمة وعدم قبول الاستقالة
وإقامة مشاورات واسعة لربح الوقت، وتكليف وزير الخارجية جبران باسيل بالقيام بالاتصالات
الدولية اللازمة لإطلاقه، وهو ما أسهم في إنقاذه وإنقاذ لبنان معه.
وزادت انتخابات عام 2018 الطين بلّة، بحصول حزب الله
وحلفائه على غالبية نيابية، واختلال التوازن السياسي الداخلي، حيث صارت رئاسة الجمهورية
ورئاسة المجلس النيابي والغالبية النيابية في محور واحد.
وهكذا، بات اليقين لدى إدارة ترامب بأن لبنان لن يخضع،
خاصة بعدما أصرّ الرئيس عون الى الاستقلالية الوطنية وأعلن مراراً نيّته السير بمشروع
إعادة اللاجئين السوريين الى بلادهم، وعدم السير بالمشاريع المرسومة للمنطقة مثل صفقة
القرن وغيرها.
وهكذا دخل لبنان فعلياً في دوامة "الضغوط القصوى"
ثم الانهيار والتآكل، وأتى التهديد الأميركي واضحاً عبر وزير الخارجية الأميركي مايك
بومبيو في بيروت (آذار 2019)، حيث وضع اللبنانيين أمام خيارين: إما مواجهة حزب الله،
أو دفع الثمن! بمعنى آخر، الاقتتال الأهلي أو دفع أثمان سياسة واقتصادية واجتماعية.
وبالفعل دفع اللبنانيون الثمن، فكان عامي 2019- 2020، عامين كارثيين، مجبولين بالأزمات - منها الحقيقي
ومنها المفتعل- من بنزين وخبز وحرائق وصولاً الى "الثورة - الانقلاب" وانهيار
سعر الليرة، وقطع الطرق، لكن المظاهرات فشلت في إحداث التغيير المنشود، فاستمر الانهيار
الاقتصادي وزادت الضغوط أكثر...ثم حصل انفجار المرفأ.
وبالرغم من قتامة المشهد الاقتصادي والمالي والسياسي،
تمّ تفويت الفرصة على من يريد دفع اللبنانيين الى الاقتتال بالرغم من كل التحريض المذهبي
السياسي والاعلامي وقطع طريق الجنوب، وافتعال مشاكل مناطقية وابتداع محاور جديدة سنية
شيعية، ومسيحية شيعية.
وهكذا يكون الرئيس عون وفي خلال أو سنتين من عهده
(2017- 2018)، قد جنّب لبنان خطرين وجوديين: الارهابي التكفيري، والفتنة السنية الشيعية،
ثم أسس لاستمرارية المؤسسات وتداول السلطة بحصول انتخابات نيابية (2018) بعد تأجيلها
لسنوات خمس.
وفي السنتين التاليتين (2019-2020) ساهم بصلابة موقفه
خلال "الثورة - الانقلاب" وما بعدها في عدم دخول لبنان في الفراغ القاتل
وانفلات الوضع الأمني، في ظلّ استقالة الحريري واعتكافه واستنكافه عن ممارسة مهامه
في تصريف الأعمال، وصولاً الى اليوم وأحداث ما بعد المرفأ.
نستعرض هذه المرحلة بإيجاز، لنقول أن لبنان والعالم بأكمله
مرّ بمرحلة استثنائية في عهد الرئيس ترامب، الذي لم يتوانَ عن فرض عقوبات حتى على حلفائه،
والخروج من الاتفاقيات الدولية، وضرب القانون الدولي عرض الحائط، ومحاصرة فنزويلا،
وفرض حصار اقتصادي على كل من إيران والعراق وسوريا ولبنان...
ولا شكّ أن الصمود اللبناني يبدو معجزة في دولة صغيرة أكلها الاهتراء والفساد منذ الحرب الأهلية لغاية اليوم، وسيطرت عليها "دولة عميقة" متوحشة مالياً وسياسياً وإعلامياً وأمنياً، وتعيش في نظام إقليمي يعيش حرب الكل ضد الكل، وصراع نفوذ ودول تمارس سياسة "قاتل أم مقتول"... لذلك، من الظلم الكبير تحميل عهد رئيس جمهوريتها - المجرّد من الصلاحيات- مسؤولية الانهيار، واتهامه بالخراب. وبكل ثقة نقول: يبقى الثمن الاقتصادي - المالي أهون بكثير من الثمن الذي كان مطلوب دفعه. ولو يكن العماد عون رئيساً للجمهورية، لربما كانت دماؤنا مسفوكة اليوم أما بالارهاب أو بالفتنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق