بعد توقيع اتفاقيات التطبيع مع كل من الإمارات والبحرين
والسودان، أعلن نتنياهو مزهوًا، عن "تغيير خريطة الشرق الأوسط" معتبراً أن
اتفاقيات التطبيع سوف "تضع حداً للعزلة الجغرافية التي كانت تعانيها إسرائيل"،
وأنها تفيد "الأمن والقلب والجيب".
الأكيد، أن العزلة التي يشير إليها نتنياهو كانت في صميم
قلق الاسرائيليين منذ تأسيس دولتهم عام 1948، لذلك حاولوا تطوير عقيدة استراتيجية لتتخطّى
العزلة التي فرضها العرب عليهم بعد احتلالهم لفلسطين، أسميت "عقيدة الأطراف periphery
doctrine".
وكجزء من هذه العقيدة، التي تبنّاها دايفد بن غوريون، اعتقد الإسرائيليون أن القفز
فوق المقاطعة والعزلة التي فُرضت على كيانهم، تفترض إقامة علاقات مع دول غير إسلامية،
وإسلامية غير عربية تحيط بالعالم العربي جغرافياً يقوم من خلالها الإسرئيليون بتطويق
"دول الطوق" العربي.
وعلى هذا الأساس، أقامت إسرائيل ابتداءً من خمسينات القرن
الماضي، علاقات جيّدة مع كل من تركيا مستفيدة من مشاكلها مع الدولة السورية، ومع شاه
ايران الذين كان حليفاً للغرب بالأساس، بالاضافة الى الامبراطور الأثيوبي هيلا سيلاسي
مستغلة صراعه مع السودان.
ومباشرة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، نظر الاسرائيليون
الى الدول الاسلامية في آسيا الوسطى والقوقاز كحلفاء وشركاء تجاريين يمكن لهم المساهمة
في فكّ العزلة الاسرائيلية، فاعترفوا باستقلال تلك الدول بسرعة، وأقاموا معها علاقات
اقتصادية وتجارية وثقافية. ولقد كشفت الاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان على اقليم ناغورنو
كاراباخ، مدى عمق العلاقة بين اسرائيل وأذربيجان من النواحي الاستخباراتية والعسكرية
والسياسية والاقتصادية.
أما اليوم، وبعد قيام اسرائيل بتوقيع اتفاقيات التطبيع
مع الدول الخليجية والسودان، يقوم الاعلام الأميركي والاسرائيلي بنشر تقارير تشير الى
ان موجة التطبيع ستشكّل موجة شبيهة بالدومينو، وستنضم دولاً عربية أخرى منها السعودية
وسلطنة عمان.
وهكذا، وبتطبيق الاتفاقيات التطبيعية يعتقد الاسرائيليون
أنهم لن يحتاجوا الى تطبيق "عقيدة الأطراف"، بل سيحاولون عزل دول الطوق العربي
بطوق أوسع، وبالتالي سيحاولون اختراق القلب العربي للقضاء على القضية الفلسطينية. وهكذا
يكون الاسرائيليون قد قلبوا رأساً على عقب نظرية موشي ديان حول "القلب المزروع
في المنطقة" حين اعتبر :"اننا قلب مزروع في هذه المنطقة، غير ان الاعضاء
الاخرى ترفض قبول هذا القلب المزروع ...لذلك لا خيار أمامنا سوى حقن هذا القلب بالمزيد
والمزيد من الحقن المنشطة من أجل التغلب على هذا الرفض"( في الرابع من حزيران
1968 بمناسبة مرور عام على حرب الأيام الستة)
لكن، الى أي مدى سينجح الاسرائيليون في تغيير الخريطة
الشرق أوسطية كما يدّعي نتنياهو؟
الأكيد، أن خريطة التحالفات لن تتغير كثيراً، فالدول
الخليجية - أو ما يعرف بمحور الاعتدال- التي حوّلت وجهة الصراع من اسرائيل الى ايران،
قد أظهرت الى العلن ما كان يحصل سراً من تنسيق
ولقاءات مع الاسرائيليين، علماً أنه منذ نهاية القرن العشرين ولغاية اليوم، كان واضحاً
للعيان أن الصراع مع اسرائيل قد اقتصر على جزء من الفلسطينيين ولبنان وسوريا، وخرجت
الدول الأخرى من المساهمة المباشرة في الصراع باستثناء بعض الدعم المادي للمجموعات
الفلسطينية.
واقعياً، إن موجة التطبيع السائدة ستجعل اسرائيل أكثر
مقبولية على الصعيد الاقليمي، لكنها لن تكون أكثر أمناً... أما العزلة التي يفترض نتنياهو
أنه يفرضها على الفلسطينيين فلن تسري سوى على السلطة الفلسطينية (التي تجد حلفاءها
يتساقطون) فهي لطالما مارست التنسيق الأمني مع اسرائيل، وبقيت متشبثة بخيار المفاوضات،
لكنها ستجد اليوم أن تسويق هذا الخيار بات أصعب من ذي قبل بين الفلسطينيين.