مباشرة بعد الانفجار - الكارثة التي ضربت بيروت، تعالت
الأصوات السياسية الداخلية التي تشكك مسبقًا في نزاهة التحقيقات التي ستجريها الدولة
اللبنانية، وتطالب بتحقيق دولي معتبرة أن هناك ما ستحاول الدولة أن تخفيه وبالتالي
يجب أن يتم تدويل القضية وتحويلها الى الخارج.
ويعيدنا هذا الأمر الى سيناريو لبناني سابق تمّت تجربته
عام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حيث طالب جزء من الطبقة السياسية بتحقيق
دولي متهمين السلطات اللبنانية والأجهزة الأمنية اللبنانية بالتواطؤ مع السوريين في
اغتيال الحريري.
واقعيًا، وإن لم نكن نريد أن نستعيد كل تجارب تسييس التحقيقات
الدولية التي خاضتها دول عديدة، ومنها تجربة العراق والتفتيش المزعوم عن أسلحة الدمار
الشامل، يمكن لنا أن نستفيد من تجربة لبنان الخاصة في التحقيق الدولي وفي مسار العدالة
المتأخرة والمسيّسة في المحكمة الخاصة بلبنان، ونذكر بعض الدلائل للعبرة:
مباشرة بعد اغتيال الحريري، شكّلت الأمم المتحدة اللجنة
الدولية المستقلة للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني، وعيّنت المحقق الإلماني
ديتليف ميليس على رأسها، بالرغم من أن ميليس كان متهمًا بالفساد القضائي في إلمانيا،
وأنه فبرك الاتهامات في قضية الملهى الليلي في ألمانيا ضد ليبيا .
ثم ما إن جاء ميليس الى بيروت، حتى فاحت رائحة الفساد
الدولي مع المسؤولين اللبنانيين، وتمّ الكشف عن العديد من خيوطه؛ منها قضية الشهود
الزور والتي أدّت الى توقيف الضباط الأربعة ظلمًا. وقد اعترف الشاهد السوري زهير الصديق،
الذي تمّ اعتقاله في فرنسا، أنه تلقى أموالاً طائلة لتوريط مسؤولين لبنانيين وسوريين
في شهادته الكاذبة، الأمر الذي جعل ميليس يبدل في تقريره المقدم الى الأمم المتحدة،
بعدما جرى توزيعه بالفعل، ما سبب فضيحة في أروقة الأمم المتحدة، استقال على أثرها ميليس.
والفضيحة الثانية والأكبر، كانت في اعتراف شاهد الزور
هسام هسام، والذي قال أن مسؤولين لبنانيين- من بينهم سعد الحريري- أجبروه على الشهادة
زورًا أمام التحقيق الدولي لاتهام مسؤولين لبنانيين وسوريين. هذا ناهيك عن الشاهد بن
عودة، الذي تبين أنه متورط مع الموساد الاسرائيلي وان تقرير ميليس كان قد استند الى
شهادته...
هذا نموذج متواضع عن نزاهة التحقيق الدولي المطلوب، والذي
لن تكفيه مجلدات لو أردنا أن نعدد كل ارتكاباته والتسييس في التحقيق الذي سبق إنشاء
المحكمة والذي تلاه بعد تأسيسها، والذي يصرّ نفس السياسيين اللبنانيين على استجلابه
الى لبنان مجددًا.
بكل الأحوال يبقى أن هناك قلقًا شعبيًا لبنانيًا مشروعًا
من أن يتعرقل التحقيق اللبناني وأن يكون هناك تعمية على مرتكبين وفاسدين، أو أن تتدخل
الوساطات السياسية أو الدينية للتغطية على المرتكبين أو المتورطين بالفساد أو بالاهمال
أو غيره.. وعليه، يجب أن يكون الحلّ، بتحقيق لبناني مدوّل، أي تحقيق يحفظ السيادة اللبنانية،
على أن يستعين بخبرات ومحققين دوليين، خاصة من الدول المتضررة والراغبة بالمشاركة في
التحقيق بسبب مقتل مواطنيها أو تعرضهم للايذاء في انفجار بيروت.
دوليًا، درجت العادة أن تسمح الدول لمحققين من دول أجنبية
في المساهمة في تحقيقات داخلية، في حال تعرّض مواطنو تلك الدول للأذى داخل أراضيها.
وبالرغم من هذا يبقى ضمن العرف الدولي، ولا شيء يجبر تلك الدول على القبول بمشاركة
أجانب في تحقيقات داخلية، إلا أن الموضوع يتعلق بالشفافية وبمحاولة السلطات المحلية
رفع مسؤوليتها عن التسبب بالأذى، وحفظ حق الضحايا في التعويضات المستحقة لهم.
في المحصلة، يكفي لبنان ما سببته التحقيقات الدولية في اغتيال الحريري، من عدم استقرار سياسي وأمني، ومن استغلال دولي لتوجيه الاتهامات الجنائية بحسب المصالح الدولية. فليقم اللبنانيون بالحفاظ على سيادتهم واستقرارهم، ويقيموا تحقيقهم المحلي المطعّم بخبرات دولية، على أمل أن تتحقق العدالة والانصاف للضحايا، بعيدًأ عن الفساد والاستغلال السياسي الرخيص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق