كما العديد من دول وسط وشرق أوروبا، وبسبب لعنة الجغرافيا
والتاريخ المليء بالحروب والتنازع والصراع بين الامبراطوريات الكبرى، تجد بيلاورسيا
نفسها اليوم كدولة - حاجز بين كل من روسيا والغرب.
منذ القدم، وفي ظل التنافس العالمي والاقليمي، تشكّل
المساحات الجغرافية بين دولتين أو محورين متصارعين، مساحة إضافية للتنافس عبر السيطرة
على المساحات الجغرافية واختراقها. ولعل التطور في أنماط الحروب، جعل الاحتلال العسكري
لتلك المناطق أقل قابلية، مع اعتماد وسائل أخرى مختلفة منها الثورات الملونة للإطاحة
بالحكام وإحلال النفوذ السياسي من خلال تغيير الطبقة السياسية الحاكمة.
وهكذا، يتأثر الفضاء الجغرافي بقوة بهذا التنازع، فعدم
سيطرة أي قوة على هذا الفضاء أو العداء مع القوتين المتنازعتين، وبقائه بدون حماية،
يجعل تلك المنطقة تدخل في "فراغ استراتيجي" ما يفاقم الصراع عليها، وتكون
أكثر عرضة للتدخلات الخارجية في شؤونها.
وهكذا، يمكّن أن نعرّف الدولة الحاجز، بأنها دولة ضعيفة
في نظام اقليمي محكوم بصراع تنافسي شديد بين قوتين اقليميتين، وتكون عرضة للتجاذب بينهما
بسبب موقعها الاقليمي، والعامل الاهم الذي يحفظ لها استقرارها هو الاستتباع لدولة منهما،
أو التوازن الاقليمي بينهما.
وبالعودة الى بيلاروسيا التي تشهد اليوم كما أوكرانيا
عام 2014، ثورة شبابية ملونة، تهدف الى تغيير سياسي داخلي، تخفي في طياتها صراع نفوذ
بين الغرب وروسيا على تلك الدول.
شهدت العلاقات بين روسيا وبيلاروسيا علاقات جيدة بعد
انهيار الاتحاد السوفياتي، خاصة بعد وصول لوكاشينكو الى السلطة عام 1994. وقد وقع البلدان
معاهدة "اتحاد" عام 1999، تنص على توحيد السياسات الخارجية والامنية والدفاعية
والمالية الخ على ان تحتفظ كل منهما بسيادتها ووحدة أراضيها وأجهزة دولتها ودستورها
وعلمها وشعارها..
وبعد مجيء فلاديمير بوتين الى السلطة في روسيا، اقترح
على بيلاروسيا الانضمام الى الاتحاد الروسي، الأمر الذي رفضه لوكاشينكو، وبالرغم من
الترغيب الروسي بقي الحال على ما هو عليه. وبعد أزمة أوكرانيا عام 2014، شعر لوكاشينكو
بالتهديد، كما معظم دول شرق ووسط أوروبا التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي سابقًا،
فعمل على محاولة اتخاذ سياسات قومية وتشجيع الابتعاد عن الهوية الروسية لصالح الهوية
القومية البيلاروسية، ما أدى الى تأزم العلاقات بينهما، لكن سرعان ما عادت الى طبيعتها
عام 2017.
ويبدو ان الخيارات التي اتخذها لوكاشينكو ابتداءً من
عام 2019 ولغاية اليوم ساهمت في تعميق الخلاف بين بيلاروسيا وموسكو، خاصة بعد اعلانه
إن بلاده "تتوق إلى إقامة علاقات أفضل مع حلف شمال الأطلسي"، وأنه "يتعين على بيلاروسيا تغيير اتجاهها طوال
الوقت، لأنها تقع في وسط أوروبا".
تمّ تتويج هذه الانعطافة للوكاشينكو، بلقاء مع جون بولتون
عام 2019 ثم بزيارة قام بها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الى مينسك في شباط
2020 وتمّ الاتفاق على شراء الطاقة من الاميركيين.
وهكذا، يبدو أن لوكاشينكو لم يتعظ من دروس كل من جورجيا
(2008) واوكرانيا (2014) وتغاضى عن كل دروس التاريخ والجغرافيا، وساهم بإدخال بلاده
في دائرة "الفراغ الاستراتيجي"، الأمر الذي فاقم النزاع والتنافس بين كل
من أوروبا وروسيا على بيلاروسيا. علمًا أنه من الصعب جدًا تخلّي روسيا عن بيلاروسيا
والسماح بتوجه قادتها نحو الغرب، لأسباب عدّة منها الأمن القومي الروسي نفسه، ومنها
تجديد الاتفاقية الأمنية (التي تنتهي صلاحيتها عام 2021) والتي تسمح للقواعد العسكرية
الروسية بالتواجد في بيلاروسيا.
أما لبنانيًا، وبالرغم من عدم التشابه بين حالة لبنان
وحالة دول وسط وشرق أوروبا من ناحية التنافس بين الروس والغرب، إلا أن لبنان كدولة
حاجز، يمكن أن يتعظ من تجارب الدول الأخرى المصنّفة في هذا الإطار، وهذا يعني أن أمامه
أحد الخيارات التالية في سياسته الخارجية:
-
أما التحوّل الى دولة تدور كليًا في فلك أحد المحاور المتصارعة وهذا صعب جدًا وسيسبب
صراعًا كبيرًا وقد يؤدي الى حرب أهلية؛
-
اعتماد "الحياد"، وهو أمر صعب جدًا أيضًا، لأن الحياد يفترض أن تكون الدولة
قوية عسكريًا لتفرض على الآخرين احترام حيادها، وأن تعترف الدول المتصارعة بهذا الحياد
( وهو أمر أساسي)، وهذا يعني أن الدول المتصارعة يجب أن تستفيد من ذلك الحياد، اي أنه
يحقق لها مصالحها، وهو أمر يدفعنا الى الخيار الثالث أي توازن القوى مع الحفاظ على
السيادة اللبنانية.
وهكذا، يبدو أن لبنان محكوم بخيار سياسة "توازن
القوى"، أي توازن النفوذ بين محورين، بحيث تحفظ مصالح كل منهما، وهما بالأساس
يتمتعان بنفوذ وحلفاء في الداخل اللبناني، وبسبب التنوع الثقافي اللبناني والذي يجعل
من الصعب- بحسب التجارب اللبنانية- السير فيه بصيغة غالب ومغلوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق