لا شكّ أن الأيام التي مضت على انفجار بيروت كانت من
أطول الايام التي يعيشها لبنان وأكثرها دينامية سياسية، وتقلبات وتبدلات، بحيث يبدو
أن السياسة تسبق الزمن بأشواط.
لقد اثبت انفجار المرفأ أن الفساد الداخلي هو بالفعل
عدو أسوأ بكثير من العدو الخارجي، وأن الطبقة السياسية وأزلامها ومحمياتها قد تدفع
لبنان الى خراب ودمار لطالما هدد به الاسرائيلي دائمًا، والعودة بنا الى "العصر
الحجري" بدون أن يتكبد الاسرائيلي أي عناء حربي أو مجهود أو غارة.
وفي التطورات السياسية الداخلية، يبدو أن رئيس الحكومة
حسان دياب بات مقتنعًا بأن الطبقة السياسية ستتخلى عنه بسهولة ما أن تتفق على تركيبة
حكومية أخرى بدفع من الفرنسيين، الذين سيأخذون بعين الاعتبار الرغبات الأميركية بالدرجة
الاولى، والرغبات الخليجية في اختيار رئيس الحكومة السنّي.
وعليه، حاول دياب أن يدفع الأمور الى الامام، وأن
"يحشر" الطبقة السياسية فيخرج ليعلن أنه بصدد اقتراح تقصير ولاية المجلس
والدعوة الى انتخابات مبكرة، معتقدًا أنه يستطيع أن يرضي الشارع المنتفض وأن يخلط الأوراق
السياسية ما يدفع لبقائه مدة أطول في الحكم.
ولكن طلة دياب واقتراحه لم تلقَ آذانًأ صاغية لدى المحتجين،
وطالبوه بأكثر من ذلك بكثير اي استقالته وحكومته، ولم يهضمها حلفاؤه الذين لم يتم التنسيق
معهم حولها. ولعل دياب يعرف جيدًا أن العديد من أطراف السلطة السياسية الوازنة سواء
في الموالاة أو في المعارضة لا تريد أن تذهب الى انتخابات مبكرة، وحتى الخارج الذي
يدفع الى تغيير سياسي كان قد أعلن صراحة على لسان ماكرون أن الوقت الآن ليس للانتخابات
المبكرة.
وقد أظهر مؤتمر المانحين الذي انعقد يوم الأحد، أمرين:
أولاً عدم ثقة الخارج في هذه الطبقة السياسية وإداريوها وكل ما يتعلق بها، بدليل أن
الجميع اعتبر أن المساعدات لا يجب أن تمر عبر الحكومة، وذلك بسبب تاريخ طويل جدًا من
الفساد المستشري وسرقة المساعدات ومنها على سبيل المثال لا الحصر مساعدات حرب تموز
عام 2006.
أما الأمر الثاني، فكان واضحًا أن المساعدات العينية،
والتي اعتبرت "دفعة" سيليها دفعات، تعني أن الخارج يريد مجرد تصميد جراح
اللبنانيين واعطائهم مسكنًا، على أن تكون الدفعات اللاحقة مشروطة.
أما الشروط المطلوبة، فهي اصلاحات جوهرية ومكافحة حقيقية
للفساد لم تستطع حكومة دياب ان تفعلها، بالاضافة الى تغيير سياسي تحدث عنه ماكرون،
واستشعره دياب، أي تغيير حكومي يعيد انتاج مشهد سياسي مختلف عن المشهد الذي تلا انتفاضة
17 تشرين، والذي تجلى في حكومة اتهمت انها حكومة حزب الله.
لا شكّ، أن دياب وحكومته يمرون بظروف سياسية حرجة كما
حال البلاد كلها، والتصور اليوم وبعد الشروط التي وضعت لتأمين المساعدات، أن الأيام
المقبلة ستشهد حراكًا سياسيًا على وقع احتجاجات في الشارع ستتخذ منحى تصاعديًا (حيث
يحاول البعض تحسين شروطه التفاوضية)، سيؤدي الى تغيير حكومي وتسوية "موضعية"
في لبنان، تشبه الى حد بعيد التسوية التي عقدت في العراق سابقًا، حيث أعيد التوازن
الى المشهد السياسي العراقي بتسمية الأميركيين لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وتشكيل
حكومة تشاركية النفوذ بين الأميركيين والايرانيين.
وهكذا، ستكون الأيام المقبلة مليئة بالتطورات المتسارعة، وسيكون التوازن سيد الموقف في النهاية، إذ أن الوقت والخراب الذي حلّ بعد كارثة بيروت لا يسمح بهامش كبير للكباش السياسي الذي سيترافق مع ضغوط اقتصادية لا يستطيع لبنان تحملها. الأسماء لم تعد مهمة، وسيكون هناك طروحات لأسماء عديدة، ولكن الأرجح عدم قدرة سعد الحريري على العودة الى السلطة، ولو كان الثنائي الشيعي وفرنجية يتمنون عودته، لكن سعد محروق خليجيًا منذ أزمة عام 2017، وليس هناك قدرة على إعادة تدوير حكوماته داخليًا، خاصة بعدما انكسرت كليًا بينه وبين الرئيس عون والوزير السابق جبران باسيل، الرجلين اللذين وضعا رصيدهما السياسي على المحك لانقاذه من براثن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق