ما أن طرح الأميركيون عقوبات جديدة على سوريا بمعرض
"قانون قيصر"، حتى انكب اللبنانيون على طرح أفكار ورؤى مختلفة منها؛ ما يحاول
أن يجنّب لبنان هذه العقوبات عبر مطالبة الأميركيين بمنح لبنان استثناءات محددة، ومنهم
من عرض المواجهة والتشبيك أكثر من السوريين لتحدّي الأميركيين، ومنهم من طرح فكرة
"حياد لبنان" والنأي بنفسه عن كل ما يحصل.
ويبدو أن الدولة اللبنانية اختارت الخيار الأول، انطلاقًا
من الإدراك بصعوبة وقدرة على اتخاذ الخيار الثاني (المواجهة والتشبيك) والثالث (الحياد)
الذي يطل برأسه كل فترة، وتتناوب على طرحه بعض القوى السياسية بين الفينة والأخرى.
وبغض النظر عن تعريف "الحياد" وهل يمكن أن
يطبّق هذا التعريف على بلد كلبنان الذي هو نفسه جزء من الصراع الدائر في المنطقة بطريقة
مباشرة وغير مباشرة، من المفيد أن نعالج مسألة "قدرة" لبنان على تبني خيار
كهذا فعليًا.
يعيش لبنان في نظام اقليمي معقّد ومركّب، وينطبق عليه
التعريف الذي قدمه "باري بوزان" وزميله "أولي وايفر" لمفهوم لمركّب
الأمن الأقليمي وهو "مجموعة من الدول تترابط اهتماماتها الأمنية الأولية مع بعضها
البعض بشكل وثيق، بحيث أن الأمن القومي لأي واحدة لا يمكن تحقيقه بشكل معقول بعيدًا
عن الأخرى".
ما يمكن أن نفهمه من هذا التعريف، أن النظم الاقليمية
المركّبة - كالنظام الإقليمي الذي يتواجد فيه لبنان- يتحلى بديناميكيات أمنية تخترق
الحدود الوطنية للدول، بحيث يصبح الإستقرار الأمني للدولة محددًا بما يحدث في المنطقة
الاقليمية المحيطة بها، وليس معزولاً عنها، ولا يمكن عزله عنها بطبيعة الحال.
وفي هذا النظام الاقليمي المركّب لا يلعب حجم الدولة
وجغرافيتها وقدراتها البشرية والمادية الدور الأبرز، بل إن كل دولة تستطيع أن تؤثر
وتتأثر بالعلاقات الأمنية الإقليمية، وجزء منها هو ما يُعرف بدول "الخاصرة الرخوة"
في النظام الإقليمي والتي تشكّل تهديدًا أمنيًا للدول المحيطة بها بغض النظر عن حجمها
وقدراتها (لطالما قال السوريون أن لبنان يشكّل خاصرة رخوة لأمن سوريا واستقرارها).
وحين نقيس العوامل التي تحدد المركّب الأمني الاقليمي
الذي نعيش فيه، والذي يمكّننا من قياس مدى تأثير وتأثّر لبنان بالوضع الاقليمي العام
وقدرته على الحياد والنأي بالنفس عنه، فيمكن أن نحدد المؤشرات التالية والتي تلعب دورًا
في جميع الأنظمة الإقليمية المشابهة:
1-
التجاور الجغرافي: وهو الذي يجعل من أي أزمة أو عدم استقرار في دولة ما، أزمة زاحفة
الى الدولة المتاخمة، وهو ما لاحظناه في تمدد الخلايا الارهابية من سوريا الى لبنان
خلال الأزمة السورية، وهو ما يجعل لبنان محط أطماع التوسع الاسرائيلي الدائم.
2-
العلاقة التاريخية، والتي قد تكون علاقة صداقة أو عداوة تاريخية، والأكيد أن العلاقات
الأمنية الاقليمية تتأثر بالتاريخ بالضبط كتأثرها بالجغرافيا، وهو ما يجعل لبنان متأثرًا
بالصراع السوري انطلاقًا من علاقة الصداقة والتنسيق الأمني التاريخي بين البلدين، وبالعكس
يبدو لبنان معنيًا بالصراع العربي الاسرائيلي بتأثير العداوة التاريخية المتأتية عن
الأطماع الاسرائيلية في لبنان.
3-
الاعتماد المتبادل على صعد عدة ومنها الصعيد الأمني، ويزداد عادة الاعتماد المتبادل
بعوامل الجغرافيا والتاريخ التي ذكرناها، بحيث يكون هناك أما تأثير أمني إيجابي (علاقات
تعاون استخباري الخ) كما هي الحال مع سوريا، أو تأثير أمني سلبي (حروب ومشاكل، وتهديدات
عسكرية) كما هي الحال بالنسبة لإسرائيل.
4-
الإختراق الخارجي والذي يشكّل تهديدًا دائمًا لأطراف النظام الاقليمي، خاصة ذلك الذي
تقوم أطراف النظام باستدعائه لفرض موازين قوى لصالحها في النظام، وهو الذي نشهده من
خلال التدخلات الأميركية والروسية وسواها.
5-
التباين في القوة بين الدول بحيث يمكن لدولة ما أن تشكّل تهديدًا للدول الأخرى، ما
يدفعهم أما الى الاستعانة بالخارج أو محاولة امتلاك القوة لتقليص الفجوة الأمنية لديهم.
إذًا من خلال كل ما سبق، لا يبدو لبنان قادرًا على تطبيق
فكرة الحياد التي ينظّر لها بعض القوى السياسية، لأسباب موضوعية وأمنية ومنطقية، ناهيك
أن هناك قسم من اللبنانيين معنيين بالعقوبات الأميركية مباشرة وهو ما يجعل كل لبنان متأثرًا بها، وبالتالي كيف
يمكن للبنان ان يعلن الحياد عن نفسه وقسم من شعبه؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق