يسود إعتقاد لدى العديد من الأكاديميين العرب والروس أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو أكثر حدّة ومواجهة للروس في سوريا، وأن الروس استفادوا من "تردد أوباما وعجزه"، ليفرضوا أنفسهم لاعبًا أساسيًا - بل اللاعب الأساسي- في سوريا، وأن الأمور قد تتغير بعدما تخطى ترامب ما سموه "الخطوط الحمراء" في المواجهة مع الروس بقصفه منشآتٍ سورية، وهو ما تردد أوباما في القيام به.
الواقع، إن هذه المقاربة تنظر الى الميدان السوري من زاوية ضيقة، وتغفل عن العديد من الحقائق الميدانية على الأرض، ونجد أنه من المفيد مناقشتها، خاصة بعد تردادها من أحد الدبلوماسيين الروس في مؤتمر الدوحة الإقليمي 2018 الذي انعقد نهاية الاسبوع المنصرم. عليه، سنعيد التذكير ببعض الأمور التي تثبت عدم واقعية هذه النظرة:
في آب 2011، بات هدف أوباما المعلن تغيير النظام في سوريا بكافة الوسائل، باستثناء الإنخراط العسكري المباشر للجيش الأميركي في القتال. إن إعلان استراتيجية "إسقاط النظام السوري" هذه من قبل أوباما كان دعوة صريحة للحلفاء والمؤسسات الأميركية الأمنية والسياسية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني للعمل لتحقيق هذا الهدف بشتى الوسائل؛ ففُرضت العقوبات الإقتصادية على سوريا، وبدأت برامج تدريب المسلحين السوريين، وتأمين وصولهم الى الداخل السوري عبر دول الجوار....
ومع الدخول العسكري الروسي المباشر الى الميدان السوري في 30 أيلول 2015، انتقل أوباما الى استراتيجية "الاستنزاف"، من خلال تحقيق توازن قوى، بحيث يقوم الأميركيون بإمداد المجموعات المسلّحة بالأسلحة والعتاد والتدريب، وتأمين مصادر تمويل، ليس بهدف إسقاط الأسد، بل بهدف الاستمرار بالقتال إلى ما لا نهاية، حيث يُنهك الجميع (الارهابيون، والروس، والإيرانيون، والجيش السوري، وحزب الله)، فيستفيد الأميركيون و"الإسرائيليون" من استنزاف الكل في "حرب الكل ضد الكل".
ولعل التهديدات الأميركية بأن حلفاءهم الخليجيين والسعوديين، وحتى الأتراك، قد يقومون بإمداد فصائل المسلحين السوريين بصواريخ مضادة للطائرات قد تكون جزءاً من التفكير الاستراتيجي الأميركي بتحويل الساحة السورية إلى "مستنقع" للروس، مستعيدين التجربة الأفغانية.
اعتقد الأميركيون خلال عهد أوباما أنهم يستطيعون ذلك، كما قال رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد، خلال جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلَّحة في مجلس الشيوخ، حين اعتبر أنه ما زال من غير الواضح إن كانت روسيا قد باتت في مستنقع في هذا الوقت في سوريا، قبل أن يستدرك ويُطمئن بأن الأميركيين وحلفاءهم يملكون مجموعة واسعة من الخيارات العسكرية التي يمكن أن تساعد في تغيير الحسابات الروسية في سوريا.
وبالرغم من أوباما لم يقم بتدخل عسكري شامل ولا حتى محدود، في معرض ردّه على اتهام الجيش السوري باستخدام الكيماوي كما فعل ترامب (حيث قصف منشآت فارغة ولم يسقط أي ضحايا)، لكن أوباما لم يتردد في قصف الجيش السوري في جبل الثردة في أيلول 2016 حيث قامت طائرات التحالف (بالخطأ كما أعلن) بقصف مواقع للجيش السوري في دير الزور ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى في صفوفه، ومكّن "داعش" من السيطرة على جبل ثردة بمحيط مطار المدينة.
وفي بداية عام 2017، وبغض النظر عن الأسباب التي دفعت تركيا الى السير بمسار آستانا، إلا أن الملاحظ أنها حصلت وطُبقت في عهد ترامب، ولم يتم الإعتراض عليها أو تهديد الأتراك للخروج منها بالقوة كما حصل في معرض قضية القس برونسون... كما أنه في عهد ترامب بالذات، وبالرغم من لهجته الخطابية العالية النبرة، استطاع الروس تكريس نفوذهم في سوريا، والسماح للجيش السوري والحكومة السورية بالسيطرة على 75 بالمئة من الجغرافيا السورية، بينما كان أوباما يسير بسياسة عدم السماح بسقوط أي بؤرة للمعارضة المسلحة أو الإرهابيين في الداخل السوري.
وقد يكون لترامب أسبابه الخاصة في تطبيق هذه السياسة في سوريا، فهو يضع نصب عينيه - بعكس أوباما- احتواء ايران مهما كلفت الأثمان، ولو كان في ذلك إعطاء الروس مكاسب في سوريا مقابل الاتفاق معهم على تحجيم الدور الايراني داخل سوريا، بينما كان أوباما يرى الخطر الايراني أقل تهديدًا للمصالح الأميركية من عودة الروس الى الساحة العالمية عبر البوابة السورية، لذا اندفع الى توقيع الاتفاق النووي.
وهكذا، يكون الفارق بين قوة ترامب وقوة أوباما في الشرق الأوسط، هو القدرة على الصراخ وإطلاق التهديدات والشتائم، ويتطابقان في عدم الانجرار الى مواجهة مباشرة مع الروس. في الواقع، تتسم سياسة ترامب بالعدائية والشدّة ضد الايرانيين والفلسطينيين فحسب، بينما في عهده، تحقق للروس السيطرة شبه التامة على التفاعلات الاقليمية حول سوريا، ولم يعد بإمكان أي طرف إقليمي أو دولي أن يقرر أي شيء بدون موافقتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق