بدأت تظاهرات أصحاب "السترات الصفراء" منذ أسابيع ثلاث في فرنسا، احتجاجًا على ارتفاع أسعار الوقود، لتمتد في وقت لاحق للمطالبة باستقالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون احتجاجًا على السياسة الاقتصادية العامة لحكومته. وقد اتهم أعضاء من حكومة ماكرون اليمين المتطرف باستغلال تلك الاحتجاجات.
وبالتزامن، شهدت الانتخابات الإسبانية سابقة تاريخية، بوصول حزب "فوكس" اليميني المتطرف إلى البرلمان، وحصوله على 12 مقعدًا نيابيًا، وبذلك ضَمن الحزب لليمين الإسباني الأكثرية اللازمة لإنهاء أكثر من ثلاثة عقود من هيمنة اليسار الإسباني، أي منذ الإطاحة بحكم الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو عام 1975، وخسارة آخر برلماني يميني مقعده في البرلمان عام 1982.
وشهدت الأعوام الأخيرة، صعودًا غير مسبوق لقوى اليمين المتطرف في جميع أنحاء أوروبا، بالتوازي مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ونجاح المتشائمين من مستقبل الاتحاد الاوروبي في إخراج بريطانيا من الاتحاد عام 2016.
وقد انتقل المدّ اليميني المتطرف الى كل من ايطاليا والنمسا وهولندا حيث حلّ حزب "الحرية"، في المركز الثاني في الانتخابات، وبات ثاني أكبر قوة في البرلمان بعد حصوله على 20 مقعدًا. والسويد التي تعاني من عدم قدرة الأحزاب على تشكيل حكومة منذ انتخابات أيلول 2018، وذلك بسبب عدم قدرتها على تخطي اليمين المتنامي شعبيًا. أما في إلمانيا فقد ارتفعت أسهم اليمين مع صعود تاريخي لحزب "البديل من أجل إلمانيا" ودخوله البرلمان الألماني إثر تحقيق 12.6 في المئة من الأصوات، ولقد أدّت الانتخابات الأخيرة وصعود كل من حزب "البديل" اليميني وحزب "الخضر" الى إنهاء مستقبل أنجيلا ميركل السياسي.
ويبدو اليوم أن المدّ اليميني القومي يأتي نتيجة لأمرين: الإسلاموفوبيا وكره الأجانب، وكرد فعلٍ على العولمة النيوليبرالية.
واقعيًا، لطالما شكّل مفهوم الهوية القومية عاملاً مقلقًا للأنظمة الأوروبية، وقد أدّى الى الإطاحة بالأنظمة الدولية التي عرفها العالم، كما أدّى الى حروب كبرى خاصة إذا ما ترافق المدّ القومي مع أزمات إقتصادية ساهمت في تعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء، ومزيد من التهميش للمجتمعات، ويمكن أن نذكر في هذا الإطار، ما يلي:
- ساهمت ثورات أوروبا أو ما يعرف بربيع الشعوب الاوروبية الذي بدأ عام 1848، بسقوط نظام "الوفاق الاوروبي" الذي تأسس كأول نظام دولي عام 1815. ثم ساهم ارتفاع أسهم الأحزاب اليمينية (النازية والفاشية) بين الحربين العالميتين، بالإضافة الى عدة أسباب سياسية وإقتصادية (أزمة الكساد العالمي 1929) الى قيام الحرب العالمية الثانية.
- من جملة الأسباب التي أدّت الى سقوط الاتحاد السوفياتي، كان يقظة القوميات في أوروبا الشرقية، التي برزت كردّ على محاولة طمس الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية لتلك الدول والاستعاضة عنها بفكر أممي اشتراكي عابر للحدود.
أما اليوم، وبعد سيادة عصر العولمة النيوليبرالية، التي حاولت أن تفرض نمطًا آحاديًا من الثقافة على جميع العالم، كما اعتبرت أنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بات بالامكان فرض المفاهيم الليبرالية على جميع الشعوب والأمم، وباتت الخصوصيات الثقافية والاجتماعية أمرًا من الماضي... عادت العصبيات القومية الى الظهور، كردِ فعلٍ على محاولة فرض "شمولية ليبرالية" تنكر على ما عداها إي إمكانية للتميّز أو مخالفة "الأمر السائد" mainstream، والإدعاء بالصوابية السياسية المطلقةpolitical correct حتى باتت تشبه الى حدِ بعيد الشمولية الثيوقراطية.
إن يقظة القوميات الأوروبية باتت تهدد مستقبل الإتحاد الاوروبي برمّته، في ظل انتشار فكر عنصري، يجد في السيادة والخصوصية الثقافية والقومية أمرًا يدفعه الى التمييز ضد الإجانب بغض النظر عن مدى اندماجهم في المجتمعات الأوروبية ومدى حاجة تلك المجتمعات لهؤلاء الطاقات "المهاجرة" من دول العالم الثالث، خاصة المسلمين منهم. والسؤال المقلق فعلاً، هل يكرر الاوروبيون تاريخهم فيكون مصير مسلمي أوروبا في القرن الحادي والعشرين كمصير يهود أوروبا في القرن العشرين؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق