شكّلت المواجهة الروسية الأوكرانية في بحر آزوف، قلقًا بالنسبة للعالم أجمع، إذ تأتي هذه الأحداث والأزمات في وقت يشهد فيه العالم توترًا غير مسبوق على أكثر من صعيد.
ولعل الهاجس الذي يقلق الجميع، هو السؤال المحوري: هل تنشب الحرب بين روسيا وأوكرانيا وبالتالي تمتد الى إنحاء أخرى من العالم، وهل ينخرط فيها الأميركيون وحلف الناتو، ويضطر معها العالم الى تكرار تجارب الحروب العالمية الكبرى؟
بشكل عام، إن دراسي العلاقات الدولية وتاريخ الحروب خاصة العالمية منها، يجدون أن كثيرًا من التطورات التي نعيشها اليوم، تشبه الى حدٍ بعيد المقدمات التي تؤسس لحروب كبرى، وذلك على الشكل التالي:
أولاً: من مقدمات الحروب عادةً، هو ظهور مجموعة قوى جديدة تريد تغيير أسس النظام العالمي، فتستفيد من ضعف الامبراطوريات أو القوى العظمى لتحل محلها أو تسعى لملء الفراغ الاستراتيجي الذي تتركه. وهو ما نشهده في صعود مجموعة من الدول الكبرى والإقليمية ومحاولتها تحدّي القوة المهيمنة (الولايات المتحدة الأميركية) في أكثر من مكان في العالم.
ثانيًا: غالبًا ما تأتي الحروب الكبرى نتيجة تنافس عالمي محموم بين الدول الكبرى إما على استعمار الدول الأخرى أو على فتح الأسواق لتصريف الإنتاج وغيرها.. وإن كان التاريخ الحاضر لم يعد ملائمًا للإستعمار المباشر لكن سباق النفوذ العالمي الذي تجلّى على أشدّه منذ عام 2011 وما تلاه، يشي بما يشبه الهستيريا العالمية للتوسع.
ثالثًا: تشبه النزعات القومية التي سادت قبيل الحربين العالميتين الى حدٍ بعيد، طفرة الشعور القومي المتنامي في العالم، وخاصة في العالم الغربي، أي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. إن ارتفاع أسهم اليمين بشكل كبير في كل إيطاليا وإلمانيا والمجر والنمسا والسويد وغيرها، والمظاهرات التي رفعت شعارات النازيين في أكثر من مكان - منها أوكرانيا أيضًا- تؤكد أن الشعوب الأوروبية تبدو مستعدة لتكرار تجاربها التاريخية.
واقعيًا، إن صعود اليمين في أوروبا، ووصول ترامب الى البيت الأبيض، يؤكد أن ما سمي يومًا "نادي الرجل الأبيض" ما زال متجذرًا وبقوة في هذه المجتمعات.
رابعًا: لقد حصلت الحربين العالميتين بعد أزمات إقتصادية كبرى، واليوم ما زال العالم يعيش نتائج الأزمة الأقتصادية العالمية 2008، بدليل أن نتائجها على المجتمع الأميركي قد تكون أحد أسباب وصول ترامب الى الحكم، وهي التي تدفعه اليوم الى تهديد أوروبا ومطالبتها بالأموال..
لكن، بالرغم من تشابه المقدمات هذه، لا يمكننا القول ان العالم يتجه الى حرب كبرى. وحتى لو اتجهت الأمور بين أوكرانيا وروسيا الى تصعيد أكبر فلن تتحول الى حرب عالمية، لأسباب عدّة أهمها:
- لا يبدو الاتحاد الاوروبي معنيًا بإذكاء الحروب في نطاق جغرافي ملاصق لحيّزه الجغرافي، فها هي الحروب التي ساهم الإتحاد في تزكيتها في الشرق الاوسط لم تنتهِ، وما زالت تداعياتها (الهجرة والارهاب وصعود اليمين) تتفاقم لدرجة قد تهدد مستقبل الاتحاد الاوروبي برمته.
- لا يبدو حلف الناتو معنيًا بحرب كبرى مع الروس، ولنا في تجربة التصعيد التركي مع الروس بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية مثال وعبرة.
- ترامب غير معني لا من قريب ولا من بعيد بالحروب العسكرية، فكيف إذا كانت هذه الحرب مع صديقه "فلاديمير بوتين"؟. يعتمد ترامب في سياسته الخارجية على التهديد اللفظي، والأساليب الاقتصادية وحروب التجارة وهو ما يفهم به بحكم خبرته وحياته، لذا لن يفرّط بعلاقته مع بوتين من أجل أوكرانيا.
- من الناحية القانونية، إن قيام الروس بتفتيش السفن التي تمر عبر مضيق كيرتش ( وهو السبب الذي أدرجه الأوكرانيون لمحاولة زيادة قواتهم الحربية في بحر آزوف وهو ما أدّى الى التصعيد الأخير)، هو تطبيق للإتفاقية الموقعة بين البلدين عام 2003، والتي أنهت الخلاف القديم حول بحر آزوف، ووتمّ بموجبها الاقرار بأن بحر آزوف هو بحر داخلي بالنسبة لكل من اوكرانيا وروسيا معًا.
- من الناحية السياسية، لا يبدو الاوكرانيون مجمعون على الأسلوب الأنسب للتعامل مع الأزمة، فالرئيس الاوكراني يصعّد ضد الروس لجذب الناخبين تمهيدًا للانتخابات القادمة في الربيع القادم بعد أن تدنت شعبيته الى حدّ كبير. ويجزم معظم الخبراء الدوليون أن خروج اوكرانيا من الاتفاقيات مع روسيا، وخاصة إتفاقية آزوف سوف يكون مضرًا للاوكرانيين أكثر مما هو مضرّ للروس، هذا ناهيك عن اختلال موازين القوى العسكرية بين الطرفين (خاصة البحرية منها) لصالح الروس.