يوماً بعد يوم، يثبت الأتراك قدرتهم على تحقيق مصالح
متعدّدة للغرب وحلف الناتو، وإمساكهم بأوراقٍ عدّةٍ تجعلهم رقماً صعباً بالنسبة للأميركيين
والأوروبيين على حدٍ سواء.
لقد كشفت أزمة إدلب حجم القلق الذي رافق الأوروبيين والأميركيين
من هجومٍ عسكري للجيش السوري على المحافظة لتحريرها، ما أدَّى إلى تهديدٍ أميركي -
غربي بالتدخّل العسكري لمنع تفاقم الوضع وهزيمة المسلحين أو هجرتهم إلى أوروبا. كما
كشفت الأزمة وما تلاها، أن تركيا ما زالت قادرة على لعبِ دورٍ وظيفي يحتاجه الغرب بشدّة
في سوريا، ومنطقة الشرق الأوسط، وهو ما يجعل "الطلاق" بين حلف الناتو والأتراك
يُقارب المستحيل.
وتُضاف إلى الدور والامتداد التركي في الشرق الأوسط،
أوراقٌ هامّة تمتلكها تركيا في أوراسيا، عبر امتداداتها وفضائها الطبيعي المُتمثّل
بالشعوب الناطقة باللغة التركية، بالإضافة إلى الموقع الجغرافي الاستراتيجي، وسيطرتها
على جغرافيّة إمدادات الطاقة... والتي تمثّل بالنسبة للأميركيين مصلحة استراتيجية هامّة.
كان مستشار الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجنسكي في
كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى"، أكثر المنظّرين الأميركيين وضوحاً في إدراك
أهمية أوراسيا، التي اعتبرها الجائزة الجيوبوليتيكيّة الرّئيسيّة بالنسبة للأميركيين،
مُعتبراً أن مَن يسيطر على أوراسيا يسيطر على إفريقيا وعلى حوض البحر الأبيض المتوسّط
بأغلبهما بشكلٍ تلقائيّ.
ونبّه بريجنسكي من ظهور منافسين مُحتمَلين للولايات المتحدة
في تلك المنطقة، واعتبر أن على الأميركيين منع أية قوّة كبرى أو اقليمية من التشكّل
في أيّ وقتٍ في "القارة الأوراسية"، خاصة إذا كانت تلك القوى الصاعِدة نفسها
من جذورٍ أوراسية. ولمنع تلك القوى من الصعود وتحدّي الهيمنة الأميركية، يجب على الولايات
المتحدة أن تستخدم جميع الوسائل الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتكنولوجية... فبامتلاكها
مقدَّرات عسكريّة مُميَّزة تحسم بها السّيطرة على السواحل برمائيّاً، يمكن للولايات
المتحدة فرض نفوذها على الداخل بطُرُقٍ سياسيّةِ الأبعادِ والأهمّيّةِ، خاصة وأنها
تسيطر على كافّة محيطات وبحار العالم، وأنّ الطّرفين الشّرقيّ والغربيّ لأوراسيا، والخليج
الفارسيّ محكومان بوجود فيالق عسكريّة أميركيّة، بحسب بريجنسكي.
ويؤكّد بريجنسكي أنّ أوراسيا هي "رقعة الشّطرنج"
التّي يتواصل الصراع والتّجاذب فيها من أجل إحراز السّيادة العالميّة، ويعتبر أنّ السيطرة
العالميّة للولايات المتّحدة الأميركيّة تبقى دائرة غير مكتملة ما لم تتعزَّز بالسيطرة
على قارّة أوراسيا التّي تشابه إلى حدٍّ بعيد الفراغ الجيوستراتيجيّ الذي ينتظر تعبئته.
وهكذا، بامتداد تركيا الجغرافي المُترامي، والأوراق الاستراتيجية
التي تمتلكها في أوراسيا، تكون الأفكار التي تراود الكرد بالقدرة على الاستناد إلى
الدعم الأميركي لتأسيسِ كيانٍ انفصالي تعارضه تركيا، نوعاً من الأحلام أو الأوهام،
لأن ما تحقّقه تركيا للأميركيين ولحلف شمالي الأطلسي، من الصعب تخطيه.
بالاتفاق المُنجَز حول إدلب، استطاع الأتراك أن يقيموا
توازناً بين منطقة شرق الفرات ومحافظة إدلب، فما سيطرحه الأميركيون من حلولٍ للمسألة
الكردية في الشمال الشرقي السوري، سيطالب له أردوغان لمنطقة إدلب وجوارها التي يسيطر
عليها الجيش التركي. وعليه، ستكون مهمة مُسلّحي "الجبهة الوطنية لتحرير سوريا"
في المستقبل، مواجهة التهديد الكردي الانفصالي وليس الجيش السوري.
لقد بيّنت الأزمة في إدلب، والإخراج الذي تمّ التوافق
عليه بين الرئيسين بوتين وأردوغان، قدرة أردوغان مُجدّداً على اللعب على التناقضات،
والاستفادة من الصراع الدولي على الأرض السورية وفي مساحة أوراسيا بأكملها، للاستفادة
والإمساك بأوراقٍ جديدة بشكلٍ دائم. من هنا، فإن تهديدات ترامب المُتتالية والمتصاعِدة
ضدّ الأتراك لن تجد صدى لها، فالأميركيون يدركون جيداً أن سياستهم مع تركيا يجب أن
تبقى ضمن سقفين صارمين، "لا يرتاح أدروغان ولا يقف على أرض ثابتة فيتمرّد، ولا
يُحرَج إلى درجة يتخلّى معها عن حلف الناتو بشكلٍ نهائي".