يعاني العالم بشكل عام، ودول العالم الثالث بشكل خاص من هيمنة ثقافية غربية، تجنح الى فرض مفاهيم غربية ليبرالية وأدوات ثقافية موحدة على العالم تحت شعار "حقوق الإنسان"، و"حقوق الشعوب".
ولعل المخيف في الأمر هو سيادة فكر واحد ينتشر في أرجاء المعمورة، ومن يخالفه عليه الشعور بالخجل والعار، لذا عليه أن لا يتجرأ ويفصح عما يجول في مكنونات قلبه أو تفضيلاته خوفًا من "العار المفترض". على سبيل المثال، وبعيدًا من السياسة، إن معارضة زواج المثليين في الغرب قد تكون سببًا في اتهامك بأنك ضد حقوق الإنسان، وأنك تشجع "ثقافة الكراهية"، وعليك أن تخجل من نفسك، وتتراجع عن معتقداتك التي لا تتلاءم مع التفكير السائد.
أما في السياسة، فلقد اختلطت في الفضاء الاعلامي والسياسي العالمي، مفاهيم المقاومة والإرهاب، والسيادة والشرعية ... وأصبحنا أمام محاولات دائمة لفرض توصيفات محددة على بعض المجموعات أو الظواهر، فالمقاومة المشروعة يتم شيطنتها إعلاميًا، بحيث يصبح من الصعب على الإنسان المجاهرة بتأييدها، وإلا أصبح مؤيدًا للإرهاب، وهكذا دواليك.
إن هذه الظاهرة، تعيدنا الى واقع "الهيمنة الثقافية" التي كان المفكر اليساري أنطونيو غرامشي قد تحدث عنها في أواخر القرن التاسع وبدايات القرن العشرين، حيث اعتبر أن كل طبقة حاكمة لا تعتمد فقط على السيطرة المادية والقهرية والسياسية للمجتمع المحكوم، ولكن أيضًا على الهيمنة الفكرية، أي على اختراق المجتمع والتأثير فيه فكريًا من خلال فرض نظام القيم الخاص بها وإطارها الفكري ومُثلها ومعاييرها للصح والخطأ، وهو الأمر الذي يساعد على جعل سيطرتها أطول عمرًا وأكثر فعالية.
وهكذا توصل غرامشي الى خلاصة هامة مفادها أن الهيمنة الثقافية ضرورية من أجل نجاح سلطة ما، كما إن أي طبقة إجتماعية تريد السيطرة وضمان السلطة والقيادة عليها تكوين هيمنة ثقافية على الآخرين، إذ أن التجارب تثبت أن تفوق مجموعة اجتماعية معينة يظهر بطريقتين اثنتين: من خلال السيطرة والإخضاع بالقوة، وكقيادة فكرية ووجدانية وقيمية.
هكذا إذًا، وسواء سميناها القوة الناعمة التي تهدف للسيطرة على القلوب والعقول، أو سميناها هيمنة ثقافية، فإن الهدف المتحقق هو واحد: السيطرة على العالم عبر فرض قيم موحدة لا يتجرأ أحد على تحدّيها أو رفضها وإلا تمّ رميه بتهم العار أو تمت شيطنته.
ولعل انتشار وسائل الاتصال الحديثة التي زاحمت الإعلام التقليدي، قد جعلت من الهيمنة الثقافية والحرب الناعمة أكثر قدرة على التأثير والانتشار والفعالية، إذ أن محترفو الاعلام يقومون بترتيب حملات إعلامية وهجومات على الخصوم لمنعهم من المجاهرة بالرأي المخالف، أو للتأثير على الإقتصاد أو الانتخابات أو التوجهات السياسية.
إذًا، ما العمل، وكيف السبيل للمواجهة؟.
نعود الى غرامشي، الذي اعتبر أن على كل طبقة أن تنتج مثقفيها العضويين، لتحدّي "الهيمنة الثقافية" السائدة، أي أن المعايير التي فرضتها الدول المهيمنة ثقافيًا على العالم لفرض سيطرتها، يجب أن لا تعتبر طبيعية أو حتمية، ويجب تغييرها وتحدّيها باعتبارها آداة للهيمنة. ودعا غرامشي الى تعديل أسلوب المثقف التقليدي، وخلق مثقف من نوع جديد، والانتقال من البلاغة التي هي محرك خارجي مؤقت للمشاعر والعواطف، الى المشاركة الإيجابية في الحياة العملية.
هذا يعني أن على شعوب العالم الثالث، وعلى القوى التي تريد تحدّي الهيمنة الثقافية التي باتت أخطر بكثير من الهيمنة العسكرية، أن تعمل على رفع مستوى الوعي الإجتماعي لديها، والسعي لإنتاج طبقة من المثقفين يبتعدون عن البلاغة والخطابات الرنانة وتحريك الغرائز، ويتحولون الى فاعلين إيجابيين ينشرون القيم الخاصة بهذه القوى، والتأسيس لثقافة سياسية جديدة يتم نشرها بالإقناع.
لا شكّ أننا نعيش اليوم في الشرق الأوسط، حربًا متعددة الوجوه، منها العسكري والثقافي والإجتماعي والتكنولوجي، وقد نجد يومًا أن الإنتصار في معركة التحرير العسكرية قد يكون الأسهل بينها والأصعب هو التحرر الذي يحتاج وعيًا ثقافيًا، فهل من بيننا مَن يتصدى لمهمة نشر الوعي الثقافي وتحدّي الهيمنة الثقافية للغرب؟.