بانتهاء المونديال بنجاح كبير وبلقاء الرئيسين ترامب
وبوتين في قمة تاريخية في هلسنكي، والانتصارات الميدانية التي يتم تحقيقها على الأرض
السورية... تشهد روسيا اليوم أفضل وضع لها منذ سقوط الإتحاد السوفياتي، وتكرّس نفسها
دولة كبرى صاعدة بعزم ويقين نحو القمة العالمية.
أساساً، ينطلق الخلاف الأميركي - الروسي حول تحديد ماهية
ما حصل عام 1990، وتعريف سقوط الاتحاد السوفياتي، فالأميركيون والغرب بشكل عام يعتبرون
أنهم انتصروا في الحرب الباردة وأسقطوا الاتحاد السوفياتي، وهو ما عبّر عنه بوضوح الرئيس
جورج بوش الأب حين قال: "الحرب الباردة لم تنتهِ، بل تمّ الانتصار فيها"،
بينما يرى الروس أن غورباتشوف حاول نقل روسيا إلى اقتصاد السوق، ولم يكن انهيار الاتحاد
السوفياتي ربحاً غربياً للحرب، لذا لا يحق للولايات المتحدة الادعاء بالتفوُّق والأحقية
بحكم العالم بشكل آحادي.
من هنا، فإن الروس يرون أن كل ما يطبع سياسات الغرب اليوم
هو التعالي والغرور، ومحاولة منع روسيا من استعادة قوتها ودورها العالمي، ويأخذون على
الأميركيين أنه ما أن بدأ الروس بمحاولة استعادة بعض من القوة كدولة، حتى بدأ حلف
"الناتو" بالتوسُّع شرقاً، وجذب الدول التي تشكّل عمقاً استراتيجياً لروسيا.
قبل فلاديمير بوتين، لم يهضم الروس قيام "الناتو"
بقصف صربيا، ثم محاولة التمدُّد الغربية في الحديقة الخلفية للروس عبر الثورات الملوَّنة،
التي أسقطت الحُكام المرتبطين بروسيا وأحلّت مكانهم حُكاماً موالين للغرب، ثم محاولة
جذب أوكرانيا وجورجيا وباقي دول أوروبا الشرقية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلى
أن وصل الأمر بالاستراتيجيين الروس إلى الاقتناع المطلق بأن الأمر لا يمكن مقاومته
أو الحد من تأثيره إلا باستعمال "القبضة الحديدية".
عمليًا، وبالرغم من قدوم الرئيس بوتين الى السلطة عام
2000، وفي جعبته الكثير من الأحلام والطموحات لإعادة بناء مجد روسيا، إلا أن التطورات
العالمية والانهيار الذي خلّفه الرئيس يالتسين في الداخل، والفساد وسيطرة المافيات،
عطّلت على الرئيس القدرة في النهوض السريع.
لم يستطع بوتين، بالرغم من شخصيته القوية، منع الثورات
الملونة في كل من جورجيا وأوكرانيا وقيرغستان من الإطاحة بحلفاء روسيا بين عامي
2003-2005، ومرغمًا ترك الأمور تتدحرج في تلك الجمهوريات بين مدِّ وجزر، بالرغم من
المخاطر والتحديات التي واجهها المواطنون من أصل روسي في تلك الجمهوريات.
فعليًا، كان الغزو الروسي لكل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية
في آب 2008، ردًا على ما قام به الرئيس الجورجي في الاقليمين اللذين يتمتعان بحكم ذاتي،
ويقطنهما غالبية روسية، التاريخ المفصلي الذي أرّخ لمرحلة جديدة قطعت مع كل المراحل
السابقة من القبول الروسي بالتهميش واقتراب الأميركيين وحلف الناتو من حدودهم.
وبالرغم من الانخراط العسكري في سوريا، وقدرة الروس على
تعطيل الخطط الأميركية في الشرق الأوسط، حاول الرئيس الأميركي باراك أوباما ومعه وزيرة
خارجيته هيلاري كلينتون، التقليل من شأن روسيا في العالم، ولم يعترفوا لبوتين وللروس
سوى بالقوة "الاقليمية"، كما اعتبر أوباما في إحدى تصريحاته التي أغاظت الروس
والتي حدد فيها فيها أنه روسيا دولة إقليمية ولا ترقى لمصاف الدول الكبرى في العالم.
أما اليوم، وبلقاء تاريخي استثنائي في هلسنكي، قطع ترامب
مع سياسة أميركية متمادية في العداء مع روسيا، معتبرًا ذلك "خطأ" كما أعلن
بنفسه في المؤتمر الصحفي. لقد أرّخت قمة بوتين وترامب الى بدء مرحلة جديدة من الإنفراج
الدولي، وكرّست اعترافًا أميركيًا بالنفوذ الروسي العالمي، فالقضايا التي ناقشها الزعيمان،
والبيان الختامي الذي أعلناه أكد على أن الأميركيين لن يستطيعوا بعد الآن الإدعاء أن
لهم الكلمة في سوريا أو في أوروبا الشرقية، أو في تقرير أسعار النفط العالمي، أو سباق
التسلح النووي... بدون الأخذ بعين الإعتبار الموقف الروسي من القضية.
كرّس الزعيمان نفسيهما اليوم، كزعيمين على العالم مؤكدين
على تشابه المقاربتين الروسية والأميركية والنظرة إلى النفس والدور من نفس الرؤية العالمية،
أي الإيمان باستثنائية تاريخية وتفوُّق حضاري؛ فكما الأميركيون، يؤمن الروس بأن الله
خلق هذه الأمة وأوكلها مهمة حضارية في العالم.
هذا الشعور بالاستثنائية هو ما يجعل الروس بكافة شرائحهم
يشعرون بالفخر الوطني الذي يغذي السخط على كل محاولة غربية "لإذلال روسيا"،
وهو ما سيدفع كل روسي اليوم، الى الافتخار، بعدما استطاع بوتين أن يعيد روسيا الى الساحة
العالمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق