كما كان متوقّعاً، انسحب الرئيس
الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، بالرغم من كل التحذيرات الدولية
التي حثّته على عدم القيام بذلك، وبالرغم من أن شركاءه الأوروبيين سيكونون من الأكثر
المتضرّرين من العقوبات التي سيُعيد ترامب فرضها على إيران والتي هدّد بأنه سيفرضها
على الشركات العالمية التي تستثمر في إيران.
يُجمِع الباحثون على أن دراسة
صُنع القرار في الإدارة الأميركية هي مغامرة صعبة، فهناك العديد من العوامِل والظروف
الموضوعية والتاريخية والاجتماعية، بالإضافة إلى تعدُّد اللاعبين والقوى في صوغه والتأثير
عليه، مع العِلم أن أياً منها ليس له صفة الحسم في كل منها، فما يستطيعه طرف ما في
قضية ما، قد لا يجعله المؤثّر الحاسِم في كل القضايا.
يتعدّد اللاعبون القادرون على
التأثير في صنع السياسة الخارجية الأميركية، فبالإضافة إلى الرئيس هناك الكونغرس ووزارة
الخارجية والبنتاغون ووكالة الأمن القومي واللوبيات المتعدّدة والشركات الكبرى والإعلام
ومراكز التفكير إلخ، ما يجعل القدرة على معرفة أيٍ من هؤلاء ساهم في التأثير على قرار
معيّن عملية مُعقّدة نوعاً ما وغير واضحة تماماً.
وإذا ما أردنا أن نستخدم العِلم
والدراسات العلمية حول آليات صنع القرار الأميركي لمعرفة التصوّرات التي يبني عليها
ترامب لصنع السياسة الخارجية الأميركية، فنجد أن أنماط التفكير التقليدية الأميركية
لا تصحّ في دراسة شخصية ترامب ولا للتنبّوء بقراراته.
عادةً، وبالرغم من إدراكهم لتأثير
وأهمية العامل النفسي والشخصي لصاحب القرار، يميل الأكاديميون في عِلم العلاقات الدولية
إلى الجنوح لاستعمال نظرية "الخيار العقلاني" عند دراسة سلوك الدول وخاصة
الولايات المتحدة الأميركية، والتي تعني أن صاحب القرار يقوم بدراسة البدائل، واختيار
الموقف الأقل كلفة والأكثر ربحاً، أي تحقيق الربح النسبي الأكبر.
وفي فترة الحرب الباردة، سيطر
"النموذج الإدراكي" (Cognitive model)، أي رفض الخيارات التي أثبتت عدم
جدواها في السابق، والبحث عن البدائل التي تتّفق مع التصوّرات والعقيدة الأميركية التي
تجد في السوفيات "خطراً دائماً" على الأمن القومي الأميركي، ما يعني أن اتّخاذ
القرار كان يتم بناءً لتصوّرات إيديولوجية وليست عقلانية.
أما في مرحلة ترامب، فلا يصحّ
البناء على أيٍ من النظريّتين السابقتين، فقراراته غير عقلانية في معظم الأحيان، هو
شديد البُعد عن التصوّرات الإيديولوجية، لذا لا يكون من الممكن إلا التحليل بناءً على
التحليل النفسي، فنجد ما يلي:
- يتمتّع ترامب بشخصية "تسلّطية ومُنغلقة"،
فالشخصية التسلّطية تتميّز عادةً (بحسب الدراسات العلمية) بالتمحور العِرقي، التعصّب
العام والفاشية، النزوع إلى السيطرة على المرؤوسين، الإذعان لمَن هم أكثر قوةً، الاستعمال
المُفرط للتصوّرات النمطية في تصوير الأحداث والأشخاص. أما الشخصية المُنغلِقة، فتتمّيز
بدرجةٍ عاليةٍ من القلق النفسي، الاهتمام بمصدر المعلومات أكثر من مضمونها، عدم تقبّل
المعلومات التي لا تتوافق مع عقائدها، غير قادرِة على صوغ سياسة خارجية عقلانية نظراً
لإهمالها للعديد من البدائل.
- وبالاستناد إلى الدراسات النفسية التي أعدّها
"هارولد لاسويل" نجد أن ترامب ينطبق عليه معيارين: المعيار الأول: "الحاجة إلى القوّة" وهؤلاء
الأشخاص يجدون في القوّة تعويضاً عن الإحساس المنخفض بأهمية الذات، الانعدام الأخلاقي،
الضعف، وعدم احترام الآخرين لهم. أما المعيار الثاني فهو "الحاجة إلى الإنجاز" ويعرّف الشخص الذي
لديه الحاجة إلى الإنجاز، بالشخص الميّال إلى المُخاطرة إن كان فيها فرصة لتحقيق أهدافه،
لكن المخاطرة هنا تقترن بشرط تحقيق الأهداف فقط.
وانطلاقاً مما سبق، بات من الممكن
التنبوء بتصرّفات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي لطالما تبجّح بعدم قدرة أحد على
التنبوء بتصرّفاته. وباتت تُفهم الأسباب التي تجعل ترامب يطرد جميع مَن يخالفه الرأي
في إدارته، وكيف قام بإلغاء جميع ما قام به الرئيس باراك أوباما في ولايته سواء في
الخارج أو الداخل... أما على صعيد "الإنجاز"، فنجد أن ترامب قام بتنفيذ جميع
ما وعد به في حملته الانتخابية في فترة قصيرة نسبياً لا تتعدّى السنة ونصف السنة من
حكمه.
ويبقى الإنجاز الأهم لترامب
بالفعل (فيما لو تحقّق) هو الاتفاق مع كوريا الشمالية على نزع سلاحها النووي، وتوقيع
اتفاقية اقتصادية - نووية معها. ويبقى اللافت في هذا المجال، أن ما تمّ تسريبه وما
تحدّث عنه وزير الخارجية الأميركي حول بنود الاتفاق النووي المُزمَع عقده مع كوريا
الشمالية، إنه استنساخ لبنود الاتفاق النووي مع إيران. المشكلة إذاً ليست في الاتفاق
النووي الإيراني، وليست في بنوده التي تفاوضت عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها مع إيران
لسنوات طويلة، بل المشكلة تكمن في أن أوباما هو من أنجزه، وفي أن ترامب يحاول أن يثبت
لنفسه وللأميركيين في الداخل وللعالم أجمع أنه "قوّي وصاحب إنجازات كبرى".
المهم عند دونالد ترامب محو كل شيء يشير الى إسم سلفه باراك أوباما عن إي إتفاق دولي أو قرار إقليمي أو حتى قانون داخلي محض.
ردحذف