2016/07/28

ما هو مصير حلف الناتو بعد الانقلاب التركي الفاشل؟

د. ليلى نقولا
يوماً بعد يوم، وكلما ازداد بطش أردوغان في الداخل وترهيبه للمعارضين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، ازداد الشرخ بين الأتراك والأوروبيين، وبينهم وبين الأميركيين، ولأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي ولغاية اليوم يعيش حلف الناتو وضعاً صعباً، حيث وصلت حدّة الانقسام وعدم الثقة بين أعضائهإلى درجة غير مسبوقة.
 
يتهم الأتراك الموالون لرجب طيب أردوغان الولاياتِ المتحدةَ الأميركية بالضلوع في محاولة الانقلاب، أو على الأقل معرفتها به، ويعتبرون قاعدة انجرليك المركز الرئيسي لـ"المؤامرة"، وفي ردّ صريح على الأميركيين، قام الأتراك بقطع الكهرباء عن تلك القاعدة التي يستعملها الأميركيون في حربهم ضد "داعش"، وإغلاق الطرق منها وإليها، وإغلاق مجالها الجوي.
 
ومؤخراً، نقلت صحيفة"يني شفق" التركية الموالية للحكومة، عن مصدر عسكري تركي أن الجنرال الأميركي المتقاعد جون إف. كامبل؛ قائد قوات المساعدات الدولية السابق لإرساء الأمن في أفغانستان "ISAF"، هو الرأس المدبّر والمنظّم لعملية الانقلاب، وأنه زار قاعدة انجرليك مرتين بشكل سرّي، وأنه تمّ تحويل مبالغ مالية ضخمة عن طريق الاستخبارات الأميركية CIA، من فرع"مصرف أفريقيا المتحد" في نيجيريا إلى تركيا لدعم الانقلاب، ولشراء ولاءات الضباط الأتراك. وتشير الصحيفة إلى أن صرف الأموال تمّ بناءً على دراسة مشتركة أجريت في النصف الثاني من عام 2015، بالتعاون بين الأميركيينوضباط تابعين لفتح الله غولين، تهدف إلى معرفة ميول وأصول وشخصيات جميع الضباط العاملين في الجيش التركي، لإغرائهم واستمالتهم.
 
وبغض النظر عن مدى صحة الاتهام، الذي نفى الأميركيون مراراً معرفتهم المسبقة به، أو المشاركة فيه، فإن العلاقات الأميركية التركية، والعلاقات التركية مع الحلفاء في حلف الناتو بشكل عام لم تكن في أحسن حالاتها قبل الانقلاب، ولن تكون كذلك بعده، خصوصاً في ظل إصرار الأتراك على المطالبة بتسليم فتح الله غولن، وهو أمر من الصعب على الأميركيين القيام به، مهما كانت الأهمية الاستراتيجية لتركيا.
 
في الواقع، تعقّدت العلاقات بين أعضاء حلف الناتو في السنوات الأخيرة كنتيجة للحرب السورية، فالأوروبيون تعرضوا للابتزاز التركي في موضوع اللاجئين، وصدرت اتهامات عدّة لتركيا بدعم الإرهاب. أما الأميركيون فكانوا أكثر صراحة؛ ففي مقابلة الرئيس الأميركي باراك أوباما في "ذي أتلانتيك"،بعنوان "عقيدة أوباما"، وصف الرئيس الأميركي نظيره التركي رجب طيب أردوغان بأنه "فاشل واستبدادي، ويرفض استخدام جيشه الضخم لجلب الاستقرار لسورية".. كما يمكن الإشارة إلى المفاوضات الصعبة التي قادها الأميركيون مع الأتراك للحصول على موافقتهم على استخدام قاعدة انجرليك لضرب "داعش" في سوريةوالعراق، وأخيراً وليس آخراً، الوعود التي قطعها وزير الخارجية الأميركي جون كيري لإغلاق الحدود التركية - السورية أمام "داعش"، ولم يستطع أن يحصل من الأتراك على أي منها.
 
فما هو مصير حلف الناتو بعد محاولة الانقلاب الفاشلة والاتهامات التركية للأميركيين؟ ومن المستفيد؟
 
- الأكيد أن تركيا لن تكون ركناً أساسياً يُركن إليه في استراتيجيات حلف الناتو في الشرق الأوسط في المدى المتوسط والقصير، ويمكن أن نشهد خلافات بين تركيا وأعضاء حلف الناتو، خصوصاً مع الأوروبيين، نتيجة انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة.
 
- قد يتذرع الأتراك بمحاولة الانقلاب الفاشلة لابتزاز أعضاء الحلف، وقد يكون آن الأوان لأردوغان للانتقام من حلفائه الأوروبيين في حلف الناتو، الذين رفضوا دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وخذلوه مراراً في موضوع التدخُّل العسكري في سورية وإنشاء المنطقة الآمنة، كما يأخذ الأتراك على أعضاء التحالف الدولي لقتال "داعش" دعمهم للأكراد وتعزيز نزعتهم الانفصالية.
 
وهكذا، في خضم هذا المشهد المعقّد، يمكن القول إن أول المتضررين من محاولة الانقلاب الفاشلة سيكون حلف الناتو، بينما المستفيد الأكبر من ذلك قد يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يهمّه عرقلة مساعي توسيع حلف الناتو، الذي يتمدد ليطوّق روسيا، ويقوم بنصب بطارايات الدفاع الصاروخي في أراضي أوروبا الشرقية،فكلما ضعف الحلف، ارتاح الروس وارتبكت أوروبا، والعكس صحيح.
 
ليس من المؤكد أن أردوغان قد يغيّر سياسته السورية ويقبل بحل سوري كما يريده النظام وحلفاؤه،لكنه على الأقل سيكون محرَجاً في علاقاته الخارجية مع حلفائه الأميركيين والأوروبيين، ومحرَجاً في الداخل الذي يحتاج إلى إدارة واهتمام غير مسبوقَين، لذا لن يكون أمامه سوى الروس الذين سينتهزون الفرصة الذهبية لاحتضانه وتقويض حلف الناتو من الداخل.
 

لقد بات حلف الناتو محرَجاً بالوضع التركي اليوم، فخروج أنقرة من حلف الناتو سيقوّض مستقبله، بينما بقاؤها فيه سيُدخل الانقسام إلى الحلف، وسيضع استراتيجية توسيع حلف الناتو على المحك.. المؤكد أن فلاديمير بوتين سيلتقط تلك الفرصة الذهبية، ولن يفوّتها.

2016/07/13

"التأرجح" الروسي في سورية.. أسباب داخلية أم أميركية؟

د. ليلى نقولا
يحتار العديد من الباحثين في فهم السياسة الروسية في الشرق الأوسط، خاصة في ظل ما يظهر أنه إصرار روسي على إنخراط وتعاون مع الأميركيين في سوريا، فيعلنون عن رغبتهم الدائمة بالتعاون بينما يتهرب الأميركيون ويعلنون عدم التنسيق الميداني. ولقد ازدادت هذه الحيرة، حين أوقف الروس الاندفاعة العسكرية التي بدأت مع دخولهم العسكري المباشر الى سوريا، وما نتج عنها من انتصارات ميدانية متسارعة، كادت - بحسب بعض المراقبين- أن تحقق انتصارًا للجيش السوري وحلفائه لن يكون بعده الحديث عن قلب موازين القوى العسكرية متاحًا.
لا أحد يستطيع الجزم بالاسباب التي تدفع الروس على الإصرار على التعاون مع الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وإن كان الأمر متعلقًا بواقعيتهم وإدراكهم لحجم دورهم المفترض، أو لعدم قدرتهم وعدم حماستهم للذهاب الى حرب باردة جديدة، أو لأسباب اقتصادية داخلية أو غيرها. ولكن، قد يكون مرتبطًا أيضًا بالفهم الروسي للعقل الاستراتيجي الأميركي والخطوط الأميركية الحمراء التي لو تمّ المساس بها، فستدفع الأميركيين الى القتال والانخراط عسكريًا بشكل مباشر وبدون إحراج.
واقعيا، هناك عدّة أهداف استراتيجية كبرى ترتسم في العقل الاستراتيجي الاميركي، ولكن ما يهمنا هنا، هو الهدف الاستراتيجي الاول والأهم، وهو "حرية الدخول والحركة في المناطق الحيوية" .
يعتقد الكثير من الخبراء الأميركيين أن هذا الهدف المشار اليه، قد أثبت خلال مئة عام أنه من أهم الأهداف التي يمكن للأميركيين بذل الكثير من التضحيات لأجل الحفاظ عليه أو تحقيقه. وبشرح بسيط، لقد كان الأميركيون يهدفون دائمًا الى المحافظة على حرية وصولهم بلا قيود، وعلى نظام سياسي متوازن يضمن لهم نفوذًا في كل أوروبا وشرق آسيا، والشرق الأوسط، لذا هم لن يترددوا في شن حرب عسكرية لحماية هذا الهدف الحيوي والرئيسي بالنسبة لهم.
ولكن، لماذا يستعد الأميركيون لبذل الكثير من التضحيات ودفع الأثمان لتحقيق هذا الهدف؟.
تتباين تفسيرات الخبراء الأميركيين في هذا الشأن، فالتفسيرات الواقعية تشير الى أن الهدف دائمًا هو منع هيمنة أي دولة أخرى - معادية- من بسط السيطرة والهيمنة على واحدة من هذه المناطق الحيوية الرئيسية، بينما الليبراليون يؤكدون على أن هذا الهدف هو لتدعيم القيم الأميركية الداخلية في الحرية والرخاء، وأنه ضرورة لاستمرارها وتطورها ونشرها في تلك المناطق الحيوية.
وبما أني أميل للمدرسة الواقعية، ولا أؤمن بوجود قيم عالمية يتم السعي لتحقيقها من خلال القوة، فإن التفسير الاول يكون أقرب الى المنطق، وذلك لأن الدول الكبرى تسعى دائمًا الى الهيمنة في المناطق الاستراتيجية الحيوية في العالم، وهي بالتالي تسعى أولاً الى الهيمنة على محيطها الجغرافي الخاص، وتقوم ثانيًا بمنع الدول الأخرى من الهيمنة في محيطهم الجغرافي الخاص ومحاولة منافستهم فيه. وهكذا تعمد الدول الكبرى الى ممارسة سياسات الردع، والاحتواء، ومنع بروز أي قوة دولية أو اقليمية أخرى ومنعها من الهيمنة.
من هنا، كان الهدف الرئيسي الدائم للولايات المتحدة، ليس فقط منع الآخرين من الاقتراب أو محاولة مدّ نفوذهم الى الحيز الأميركي، بل أيضًا مدّ نفوذها الى مناطق الآخرين ومنافستهم في حيّزهم الجغرافي لضمان حرية الوصول والحركة في تلك المنطقة الحيوية، ولو كانت بعيدة جغرافيًا عن الولايات المتحدة.
بهذا المعنى، قد يكون الروس أدركوا مدى أهمية "حرية الوصول والحركة" في الشرق الأوسط وفي سوريا والعراق بالتحديد، بالنسبة للأميركيين، ويدركون أن تحدي الأميركيين في هذا المجال، سيدفعهم الى المزيد من الانخراط العسكري لتأمين هذا الهدف، وهو ما سيرتدّ سلبًا على كل من الروس ومحور المقاومة، وسيدفع الى مزيد من الاستنزاف في الحرب السورية، يؤدي الى خسارة الجميع بتمكين الارهابيين، لذا عمدوا الى عدم استفزازهم في هذا المجال.
في المحصلة، لا يمكن لأي مراقب من الخارج إدراك حقيقة ما يفكر فيه الروس في حركتهم وانخراطهم "المتأرجح" في سوريا، ولكن، بكل الأحوال، لقد كان لانخراطهم السياسي في مجلس الأمن، ثم الانخراط العسكري في الميدان، تأثير كبير على حجم الدور الروسي العالمي، وأهمية روسيا كدولة على الصعيدين العالمي والاقليمي في الشرق الأوسط. لذلك، مهما تأرجح الروس بين الفعل وعدم الفعل، والانخراط وعدم الانخراط، يبقى الانتصار في سورية حاجة روسية قد توازي الحاجة السورية - الايرانية للانتصار.