د. ليلى نقولا
خُلطت الأوراق التفاوضية في
جنيف، باعلان الرئيس الروسي نيّته سحب بضع قطعات من قواته العسكرية، واعلان المعارضة
أنها تؤيد مفاوضات مباشرة مع الحكومة، وعلى الرغم من أن مسار المفاوضات الجارية كان
قد حدد من قبل، إلا أن مسارها لا يمكن إلا أن يسير على وقع الاعلان الروسي المفاجئ
للجميع.
قد تكون التحليلات تباينت في
تحليل أسباب هذه الخطوة الروسية المفاجئة وهل هي موجّهة ضد الحلفاء أو ضد الخصوم في
المنطقة، أو الاثنين معًا، ولكنها بكل الأحوال، وكما حصل في التدخل العسكري الروسي
المباشر منذ أشهر، تعود لتخلط الأوراق من جديد، وتثبت أن بوتين من أمهر "لاعبي
الشطرنج" السياسي الدولي على الاطلاق.
وبغض النظر عن الأسباب التي
دفعت الروس الى إعلان هذه الخطوة، وقد صُرف الكثير من الحبر والجهد لتحليلها، فما الذي
يمكن أن تكون عليه نتائجها، على الصعيدين العسكري والسياسي؟
بداية، إن تهليل بعض المعارضين
بأن الرئيس الروسي قد خاف وتراجع، وهذا "بداية نصر للمجاهدين" يبدو سخيفًا
جدًا، ومنفصلاً عن أي منطق، فلا الحقيقة العسكرية على الارض تشي بهزيمة أو تراجع، ولا
شخصية الرجل تعرف أي نوع من الخوف أو الجبن أو امكانية التراجع أمام الأخطار. لذلك،
فإن الحديث عن انكسار روسي وتراجع وتخلٍ عن دعم النظام السوري لا يمكن أن يترافق مع
تحليل النتائج.
واقعيًا، فرض الروس وجهة نظرهم
في الصراع السوري بتدخلهم، وشكّلوا الرافعة للجيش السوري وحلفائه في المنطقة، وهم باعلان
الانسحاب الجزئي، يفرضون وجهة نظرهم على العملية السياسية برمتها، ويهددون المعرقلين
من القوى الاقليمية والدولية. فهم قد أجبروا المعارضة وداعميها على القبول بالذهاب
الى المفاوضات والقبول بالجلوس على الطاولة مع ممثلي الأسد في السلطة وهذا يعدّ بمثابة
اعتراف بشرعية النظام بعد سنوات خمس من الحديث عن عدم شرعيته. واليوم، بات الجيش السوري
والنظام السوري- باعتراف الجميع- جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية مكافحة الارهاب في المنطقة،
وضروري لبقاء الدولة السورية وعدم انهيارها.
ثانيًا- حقق الروس من تدخلهم
العسكري ثم اعلان بوتين الانسحاب مع استمرار "تأمين قاعدتي طرطوس وحميميم بشكل
محكم من البحر والبر والجو" ، نتائج دولية هامة، على صعيد تكريس نفوذهم الدولي
وفرض روسيا لاعبًا دوليًا لا يمكن تخطيه في الشرق الاوسط. وبات على الاميركيين وحلف
شمال الأطلسي التعامل بواقعية مع وجود قبة عسكرية محصنة في المتوسط، تضاف الى قبتين
سابقتين؛ الأولى والأكبر أنشأها الروس في كالينغراد على بحر البلطيق، والثانية تمّ
تطويرها في شبه جزيرة القرم بعد ضمّها، على البحر الأسود.
ولقد أعطى الأتراك- بتهورهم-
للروس ذريعة كبرى لفرض مثل هذه القبة الدفاعية، بعد اسقاطهم الطائرة الروسية وقتل طيارها
فوق سوريا. أما الكلفة المادية والعسكرية لهذا الانجاز التاريخي العسكري، فتبدو هامشية،
إذ أن الروس جرّبوا أسلحتهم وطائراتهم، وعرضوا منتجاتهم في سوق السلاح بدون كلفة، وكما
ذكرت "وول ستريت جورنال" إن ما أفرغته الطائرات الروسية كان سيتم استخدامه
في التمارين العسكرية بكل الأحوال".
ثالثًا- وضع الروس باعلان الانسحاب
الجزئي، كلاً من الأميركيون والاوروبيين أمام مسؤولياتهم، فالأميركيين باتوا مجبرين
اليوم على الضغط على حلفائهم للقبول بالشروط التي تسهّل الحلّ السياسي، وإقفال المعابر
المفتوحة التي يقوم الاتراك من خلالها بدفع المقاتلين الى الجبهة لمقاتلة الجيش السوري
وحلفائه. أما الاوروبيون، فيفترض أن يكون القرار الروسي بالانسحاب، مبعثًا للقلق الجدّي
لديهم، لأن الانسحاب وابقاء الحرب مشتعلة الى ما لا نهاية، سيدفع بالمزيد من اللاجئين
الهاربين من الحرب والجوع الى حدود اوروبا ولن ينفع معها أي خطط مشتركة مع تركيا. وعليه،
فليخفف الاوروبيون من مزايداتهم "الانسانية" وممالأتهم للأتراك، لأن ما يقوم
به الروس في سوريا يصبّ في مصلحتهم المباشرة بكل المقاييس.
إذًا، لا يبدو الاعلان الروسي
انفصالاً أو تخلٍ عن حلفائه، فمعروف عن بوتين أنه لا يتراجع عن دعم حلفائه مهما كانت
الضغوط والخسائر، وهذا ما بينته الحرب في الشرق الاوكراني. وبالرغم من التباين الروسي
الايراني حول الجهة الاقليمية "السنية"؛ التي من المفترض التعامل معها لتسهيل
الحل في سوريا، إلا أن خريطة الطريق الروسية والايرانية للحل في سوريا تتقاطعان بشكل
كبير، ولا تتباينان في رؤيتهما، كما أن بقاء النظام السوري ضروري للروس للحفاظ على
مكتسباتهم ونفوذهم في الشرق الاوسط، والتي لن يتخلى عنها الروس بسهولة خوفًا أو كرمى
لعيون الاوروبيين والأتراك أو سواهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق