د.
ليلى نقولا
بعد
أن أستطاع الروس فرض حظر جوي واقعي فوق الأراضي السورية، تتسارع التقديرات والتكهّنات
حول مستقبل الأزمة السورية، في ظل تغيّر موازين القوى على الأراضي السورية، وانقلاب
المشهد الميداني رأساً على عقب، بعدما كانت المجموعات المسلحة قد استطاعت في الأشهر
القليلة الماضية توسيع رقعة نفوذها.
وبما
أنه معروف في علم العلاقات الدولية، أن الميدان يلعب لصالح السياسة وليس العكس، انطلاقاً
من مقولة كلاوسفيتز إن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى، فما هي السناريوهات التي
يمكن أن يخلقها التدخل العسري الروسي في سورية؟
السيناريو
الأول: أن يكون الأميركيون والروس قد اتفقوا مسبقاً على التدخل الروسي؛ حيث يقوم الروس
بما لم يستطع الأميركي أن يقوم به لجهة ضبط تصرفات حلفائه الإقليميين، وإعادتهم إلى
بيت الطاعة الأميركي، بعد أن شهدت الأعوام الأربعة الماضية جنوح السعوديين والأتراك
إلى ما يشبه التمرد، أو على الأقل التململ و"تكبير الحكي" ضد السياسة الأميركية،
ونذكر منها التهديد السعودي بالبحث عن حلفاء آخرين.
بهذا
السيناريو، يقوم الروس وحلفاؤهم بالقضاء على المعارضة المسلحة التابعة للأتراك والسعوديين،
خصوصاً "جيش الفتح"، ما يدفع الدولتين الإقليميتين الراعيتين للمجموعات المسلحة
للذهاب مرغمتين إلى حل سياسي في سورية، بعد فرض الميدان السوري إيقاعه على الجميع،
وتكبيدهم خسائر كبرى.
وقد
تكون لهذا السيناريو تصوراته المحقة والمترافقة مع إمكانية فشل حزب أردوغان في الانتخابات
التركية المزمع إجراؤها في الأول من تشرين الثاني المقبل، والتي قد تؤدي إلى أزمة سياسية
داخلية، تترافق مع القلق الاقتصادي المتنامي، وهبوط سعر صرف الليرة التركية. أما بالنسبة
إلى السعودية، فإن الممكلة المتهالكة بحروب الأمراء في الداخل، تعيش أسوأ كوابيسها
في حرب خرجت إليها في اليمن، ولا تعرف كيف تنهيها.
السيناريو
الثاني: أن يكون الروس قد استغلوا التردد الأميركي في المنطقة، وفشل خططهم السياسية
والعسكرية على مدى سنوات أربع، فأتوا في لحظة تاريخية مفصلية، وتدخلوا حيث الحلف الغربي
في أسوأ لحظات له منذ اندلاع الحرب السورية، ليحصّلوا مكاسب استراتيجية كبرى سيحصدونها
في ملفات عدّة، أقله في "الشرق الأوسط" وأوكرانيا، وكسر العقوبات الدولية
التي أنهكت الاقتصاد الروسي.
في هذا
السيناريو، نجد أن الأميركيين أعلنوا فشل برنامج تدريب "المعارضة المعتدلة"،
وانهيار "غرفة الموك" على الجبهة الجنوبية، وقيام الفصائل الجنوبية بالبحث
عمن يؤمّن لها المال، وبعضهم قرر الذهاب إلى أوروبا.
أما
الأوروبيون، وبالرغم من أن للهجرة السورية إلى أراضيهم تأثيرات اقتصادية جيدة، لكن
عدم قدرتهم على تحديد مَن يدخل ومَن لا يدخل، وإمكانية اندساس الإرهابيين بين اللاجئين،
بالإضافة إلى القلق من تنامي نفوذ أحزاب اليمين المتطرف في أنحاء أوروبا، تجعلهم أكثر
قُرباً لتفهُّم الدوافع الروسية، والترحيب الضمني بأي واقع جديد يمكن أن يفرضه هذا
التدخل، وهكذا يكون الروس قد استطاعوا النفاذ من نافذة تناقض المصالح بين الأميركيين
والأوروبيين.
وخارج
إطار السعودية وسياستها المعروفة بالهروب إلى الأمام، والتصعيد كلما لاحت بادرة انفراج
ما في القضية السورية، والتي أخرجت أبواق الفتنة لتعلن "الجهاد" ضد الجيش
الروسي، ولتحرّف المراد من قول أحد المسؤولين في البطريركية الروسية، فتحاول جعل القضية
حرباً بين المسيحيين والمسلمين!! يحسب الأميركيون والأوروبيون والأتراك خطواتهم ومواقفهم من التدخل الروسي
بدقّة، ويحسب كل منهم هامش الخطأ الدقيق الذي يمكن أن يؤدي إلى حرب عالمية بالأصالة،
بعد أن استمرت أعواماً أربعة بالوكالة على الأراضي السورية، فتبرز التصريحات الدولية
والإقليمية التي تتعامل مع قصف الروس لأدواتهم على الأرض كأمر واقع لا مفر منه، وتكتفي
بإبداء "القلق" والرغبة في التنسيق.
وهكذا،
وبغض النظر عن أي من السيناريوهات، يملك التوصيف الأقرب إلى الواقع، يبقى الثابت المشترك
بين كل السناريوهات أن الروس والأميركيين لن يتقاتلوا مباشرة فوق الأراضي السورية،
كما يمكن القول إن الروس قد حققوا أهدافاً عدّة منذ اليوم الأول لحملتهم الجوية، وفرضوا
أنفسهم لاعباً دولياً لا يمكن تخطيه في منطقة "الشرق الأوسط".. والأكيد،
أن ما بعد التدخل العسكري الروسي في سورية مختلف عما قبله، والأكيد أيضاً أن هذا التدخل
قد أدخل "الشرق الأوسط" برمّته في انعطافة جديدة، سيحدد مصيرها نجاح الحملة
العسكرية الروسية، التي ستترافق حتماً مع تقدُّم برّي سيقوم به الجيش السوري وحلفاؤه
على الأرض.. ويبقى الميدان الحَكم وصاحب القرار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق