2015/12/25
2015/12/11
الارباك التركي: من سوريا الى العراق
د. ليلى
نقولا
بالرغم من التشنج الذي سببه إسقاط
الطائرة الروسية من قبل الأتراك فوق الأراضي السورية وما نجم عنه من توتر شديد في المنطقة
التي باتت تعجّ بالاساطيل والتي لا تحتاج إلا لخطأ غير مقصود أو خطوة غير عقلانية من
قبل أحد المتهورين حتى تنفجر حرب عالمية ثالثة تطيح بما تبقى من أمل بتسوية أو حل،
قام الأتراك بخطوة تصعيدية أخرى في العراق، حيث عمدوا الى نشر قوات تركية في محافظة
نينوى بدون تنسيق مع الحكومة العراقية، وأعلنوا أنهم لن يسحبوها بالرغم من مطالبات
العراقيين المستمرة بسحبها واعتبارها "عدوانًا" وانتهاكًا لسيادة العراق.
فماذا في التصعيد التركي الجديد؟
يبدو أن التصعيد التركي المزدوج
على جبهتي العراق وسورية، يشير الى أن الأتراك يخشون التسوية المقبلة الى المنطقة،
ويحاولون قدر المستطاع أن يحققوا أكبر قدر من المكاسب من تلك التسوية من خلال التصعيد،
بالاضافة الى منع الأكراد من تحقيق حلمهم بدولة كردية مستقلة تبدو أقرب الى التحقق
لأول مرة في تاريخهم، وهو ما يجعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مصرًا على إطلاق مواقف
تؤكد على السير بمشروع إقامة "مناطق آمنة" في شمال سوريا، بالاضافة الى دعوته
الى التنفيذ السريع لمشاريع تدريب وتجهيز المعارضة السورية "المعتدلة" التي
كانت قد أعلنت عنها واشنطن من قبل.
وبالرغم من نجاح الأتراك في ابتزاز
الإتحاد الاوروبي في قضية اللاجئين، والحصول على مبلغ 3 مليار يورو من الاتحاد الاوروبي
كثمن لإعادة استضافة اللاجئين الذين يتم إعادة ترحيلهم من الاتحاد؛ لا شكّ أن الحكومة
التركية تعيش إرباكًا اقليميًا لم تشهد مثله
منذ بدء الأحداث في المنطقة ولغاية الآن، ويتجلى في:
- عقوبات اقتصادية وتهديدات
يومية من موسكو بعد إسقاط الطائرة الروسية، ولا يبدو أن أحدًا من الحلفاء مستعد لدعمهم
او تخفيف الضغط عنهم.
- انكماش الاقتصاد التركي الى حد غير مسبوق، بالاضافة الى قلق المستثمرين
من عدم الاستقرار وهو ما قد يدفعهم للرحيل عن تركيا بعدما شكّلت تركيا البديل والمكان
الأفضل لكل مستثمر في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد الحرب في سورية وعدم الاستقرار
في كل أنحاء المشرق.
- خسائر كبرى للمسلحين التابعين لأنقرة في شمال سورية، وتقدم للجيش
السوري مدعومًا بقصف جوّي روسي، وعدم قدرة الأتراك على تأمين الإمداد لإعادة التوازن
الميداني كما حصل في جسر الشغور سابقًا، بسبب دخول العامل الروسي الذي فرض واقعًا جديدًا
على الأرض.
- تخوّف تركي من تمدد "حزب العمال الكردستاني"، الذي كان
له المساهمة الأكبر في معركة تحرير سنجار في تشرين الثاني المنصرم، ما جعله يسيطر على
البلدة ذات الاغلبية اليزيدية، وهو ما دفع الأتراك الى استباق تمدده ومحاولته ربط أقاليمه
السورية بمناطق عراقية تمهيدًا لإعلان الدولة، خصوصاً في ظل قلق مسعود البرزاني ( حليف
الأتراك) من توسّع سيطرة حزب العمال الكردستاني على حساب نفوذه في المناطق الكردية
التي شهدت مظاهرات تدعو الى رحيله والى إصلاحات اقتصادية ومكافحة الفساد للخروج من
الازمة الاقتصادية التي تفاقمت بعد انخفاض أسعار النفط.
- عدم قدرة الأتراك على إقناع الحلفاء بالسير بمشروع المنطقة
"الآمنة" وهي فعليًا ترجمة للطموح التركي باحتلال كامل المنطقة الممتدة من
ريف اللاذقية في سوريا، أو ما يطلق عليه الأتراك "جبل التركمان" وصولاً الى
تلعفر في شمال العراق، وهي منطقة قريبة من المواقع التي يتمركز فيها الجنود الأتراك
داخل العراق اليوم.
- قلق تركي من التسوية
المقبلة في سورية، وخصوصاً بعدما صدرت مواقف أميركية واوروبية تدعو الى التعاون مع
الجيش السوري، وتعيد النظر بمواقفها من الرئيس السوري بشار الاسد، بالاضافة الى أن
التصعيد الروسي ضد الأتراك قد يدفع موسكو الى دعم الأكراد في مطالبهم، كما سؤدي بالضرورة
الى التضييق على حلفاء أنقرة من المعارضين السوريين بحيث قد يواجهون بفيتو روسي على
مشاركتهم في السلطة أو في الحكومة السورية المزمع تشكيلها كمسار من مسارات الحل السياسي.
2015/12/03
كيف قَلَبَ الروس "الطعنة" التركية لمصلحتهم؟
د. ليلى نقولا
ما زالت تداعيات إسقاط الأتراك للطائرة الروسية تتفاعل يوماً بعد يوم، وتكشف عن درجة الحماقة التي ارتكبها الأتراك في التصعيد العسكري في منطقة تضج بالطائرات المقاتلة والأساطيل الحربية، والتي لا تحتاج إلى أكثر من تصعيد أو إهانة لكبرياء أحد الدول المشاركة لكي تندلع حرب عالمية لن يُعرف مداها وتطورها وكيفية انتهائها.
يراقب حلف شمالي الأطلسي بقلق وحذر التحرك الروسي في سورية، خصوصاً الانتقال من مرحلة عروض التعاون والتنسيق مع دول التحالف الأميركي ضد الإرهاب قبل إسقاط الطائرة، إلى سياسة الهجوم ومحاولة فرض نفوذ أحادي فوق سورية يصل مداه إلى 600 كلم، هو المدى الذي تصله صواريخ "أس 400"، بعد إسقاطها.
واقعياً، منذ قرارهم بالانخراط العسكري المباشر في سورية، بدأ الروس بإرسال القدرات الدفاعية الجوية المتطورة جداً، وكان أعضاء من حلف "الناتو" قد حذّروا في وقت سابق من أن قبة "A2/AD" يتمّ إنشاؤها في شرق المتوسط، وهذا يعني أن الروس يبنون ثالث قبة لهم في العالم، بعد كاليننغراد في بحر البلطيق، وسيفاستوبول (في شبه جزيرة القرم) في البحر الأسود، والتي تمّ إنشاؤها بعد ضم القرم، وأقام فيها الروس منظومة صواريخ "كروز" تغطّي كامل البحر الأسود، والآن يتم إقامة الثالثة في اللاذقية على الشاطئ السوري في البحر المتوسط، والتي أنشأ فيها الروس قاعدة جوية روسية في مطار "حميميم"، وأرسلوا الطراد الروسي "موسكو"، الذي يُلقَّب بقاتل الغواصات، ما يعني إقامة قبة روسية في المتوسط لأول مرة في التاريخ الحديث.
ويشير الخبراء العسكريون إلى أن القبة التي يبنيها الروس في المتوسط، كما القبتان السابقتان؛ تعمل على تحقيق أهداف عسكرية عدّة، أهمها اثنان:
1- السيطرة على منطقة ومنع الوصول إليها، أي أنه منذ الآن فصاعداً على حلف "الناتو" أن يحتسب أي خطوة أو تدخل عسكري له في منطقة النفوذ الروسي في سورية، بسبب "الكلفة العالية جداً"، و"المخاطر غير المقبولة" لأي تدخل أحادي لا يأخذ بعين الاعتبار التنسيق مع الروس، وهو ما تحاول أن تتحداه ألمانيا، حيث أعلنت وزارة الدفاع الألمانية أنها لن تقدّم معلومات لروسيا عن مسار تحليق مقاتلاتها التي سترسلها إلى سورية، لكن الكلام الحقيقي سيكون للميدان وليس للتصريحات غير الواقعية.
2- الحرمان من القدرة على احتلال المنطقة المشمولة بالقبة الدفاعية، وهذا يعني أن أي وجود عسكري في سورية خارج الإرادة الروسية سيكون غير ذي جدوى، ويمكن للروس تعطيله وإفشاله، ومنعه من أي تحقيق أي نتيجة فعّالة على الأرض.
وانطلاقًاً من كل هذا، يمكن فهم التحرك العسكري الأميركي في المنطقة، والذي يركّز على المنطقة التي ينشط فيها "داعش"، خصوصاً في الرقة ودير الزور، والإعلان الأميركي الأخير بأن قوةً أميركية مكلفة بمهمات استشارية ميدانية واستخباراتية، قد تصل في الأيام المقبلة إلى العراق، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدّل على أن الأميركيين يتحاشون الاصطدام بالروس في سورية، ما يعني أنه عندما تنضج مرحلة التسويات في المشرق العربي، ويقتنع "الناتو" بعدم قدرته على إزاحة النفوذ الروسي في سورية أو تحدّيه بعد اليوم، فإن المنطقة ستشهد تقاسم نفوذ أميركي - روسي مشترك.
وبناء على هذا التصور المستقبلي (والذي يحتاج إلى وقت لتبلوره)، وفي حال لم يفرض الميدان واقعاً مغايراً، نرى أن المنطقة تسير نحو تقاسم نفوذ واقعي بين الروس والأميركيين، حيث تكون سورية ساحة النفوذ الروسي في المنطقة، بينما يكون العراق ساحة النفوذ الأميركية، وتشكّل إيران "عامل التوازن" بين النفوذين، كونها اللاعب الإقليمي الأقوى في الساحتين، علماً أن المخاطر تبقى متعلقة بما يلي:
1- في حال تمّ رسم مناطق النفوذ نتيجة تفاهم أميركي - روسي، فإن المنطقة ستشهد ازدهاراً غير مسبوق، ونهضة إعمارية، وسيتخلص المشرق العربي من الإرهاب وتوابعه، وسيتمّ إضعاف الفكر المولّد له.
2- في حال فرض الميدان واقع النفوذ بدون التفاهم السياسي الأميركي - الروسي، أي في حال لم يقبل الأميركيون بما فرضه الروس من واقع ميداني لمصلحتهم في سورية، واستمروا بمقاومته، فإن منطقة لا بأس بها على جانبي الحدود بين العراق وسورية، ستكون أشبه بقندهار، حيث تتداخل فيها كل تعقيدات الصراع الإقليمي والدولي، وينتشر فيها الإرهاب، ويتعذر إنهاء الصراع فيها، كونها المتنفس الذي ستتنفس فيه كل تلك الصراعات المتفجرة في المنطقة.
لكن، إلى أن يحين أوان التسوية، وهي ليست في المدى المنظور بأي حال، فإن لسان حال الروس وحلفائهم يتعامل مع حادثة إسقاط الطائرة ضمن عنوان "ربّ ضارة نافعة".
2015/11/26
هل يردّ بوتين على الرسالة التركية- الاميركية؟
د. ليلى نقولا
بالتأكيد، سيذكر تاريخ الحرب السورية عند كتابته، حدث مفصلي آخر يضاف إلى التطورات المفصلية السابقة، وهو إسقاط الأتراك طائرة روسية فوق الأراضي السورية، وقيام المسلحين التابعين لتركيا بإطلاق النار على الطيارين وهما يهبطان بالمظلة على بُعد كيلومترات عدّة من الأراضي التركية، وفي عمق الأراضي السورية.
والأكيد أيضاً أن الردّ الروسي على هذا التطور الخطير هو أمر حتمي، خصوصاً مع شخصية قيادية كشخصية فلاديمير بوتين، ولأن عدم الردّ سيؤدي إلى تعطيل مفاعيل الردع الذي فرضته عاصفة السوخوي، وسيدفع إلى التشجيع على المزيد من الاستهدافات للروس في المنطقة، وفي سورية.
وبغض النظر عن حجم الردّ الروسي الحتمي وطبيعته، وأين يمكن أن يتحقق، وكيف، يبدو من المهم بمكان قراءة المعطيات التي توفّرت عن الحادثة بجوهرها ومضامينها، وأسئلتها الجوهرية، وهي على الشكل الآتي:
أولاً: سواء كانت الطائرة الروسية قد خرقت الأجواء التركية لمدة 17 ثانية، كما يقول الأتراك، أو لم تخرقها كما يؤكد الروس، فإن الطائرة لم تكن تشكّل تهديداً للأتراك أو لأمنهم القومي بالمعنى المتعارَف عليه في القانون الدولي، ليتمّ إسقاطها.
ثانياً: الإعلان أن الطائرات التركية التي استهدفت الطائرة الروسية قد خرجت من قاعدة انجريليك التركية، وهي قاعدة يستخدمها الأميركيون في حربهم على الإرهاب، تشي بأن تنسيقاً أميركياً - تركياً سبق قصف الطائرة الروسية. وإذا عطفنا الأمر على تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما بعد الحادثة، وما صرّح به الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بُعيد خروجه من اجتماعه مع أوباما، من عدم رغبة فرنسية بالتنسيق مع الروس في حربهم في سورية إلا في حال التزموا فقط بقتال "داعش"، يعني أن العمل العدواني التركي ليس إلا رسالة أميركية للروس بعدم قبولهم بتغيير موازين القوى على الأرض لصالح الجيش السوري.
ثالثاً: تذرُّع الأتراك بحجة الدفاع عن النفس في إسقاطهم للطائرة الروسية، معتبرين أن الدفاع عن النفس يسري في حالتين:
أ- حقهم في الدفاع عن مجالهم الجوّي الإقليمي، وهذا له طابع سيادي بالتأكيد.
ب- التذرُّع بأن الروس يقصفون التركمان في سورية: وإن كان الأتراك يستخدمون هذه الذريعة لأن روسيا استخدمتها عام 2008؛ حين قام الجيش الروسي بالتدخل العسكري في جورجيا لتحرير أبخازيا واوسيتيا الجنوبية، متذرعاً بحماية مواطنين روس، فإن الحالة الجورجية لا تنطبق على الحالة السورية؛ ففي الحالة الجورجية، مواطنو أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية هم بالفعل رعايا روس يحملون الجنسيات الروسية، ولطالما شكّلت تلك الأقاليم جزءاً من الأراضي الروسية منذ القرن التاسع عشر، وبعدها كجزء من الاتحاد السوفييتي بعد الثورة البلشفية ولغاية عام 1991، حين استقلت جورجيا، فشكلّوا أقاليم مستقلة ضمنها.
وهكذا، فإن حالة الأقلية التركمانية داخل سورية (وهم مواطنون سوريون من أصول تركمانية) لا يمكن مقارنتها بحالة الرعايا الروس الموجودين في أراضي جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، كما أن التذرع التركي بالتدخل العسكري لحماية الأقلية التركمانية داخل سورية يُعدّ تخطياً لكل المواثيق والأعراف الدولية التي تؤكد على سيادة الدول التي تتواجد فيها أقليات عرقية على أرضها.
رابعاً: الاستدعاء التركي لحلف شمال الأطلسي بعد اسقاطهم الطائرة الروسية، يظهر وكأنه إما محاولة لجرّ الحلف الى حرب مع الروس، أو لتجنّب الردّ الروسي القوي من خلال محاولة "تخويفهم" بالحلف الأطلسي، لكن البيان المتحفّظ لحلف شمال الأطلسي، وبالرغم من أنه دعمَ - لفظياً - الرواية التركية، يعكس عدم استعداد الحلف للدخول عسكرياً في حرب ضد الروس أو لإقامة منطقة عازلة أعلن أردوغان أنه "سينشئها بالتعاون مع حلفائه"، خصوصاً في وقت تتعرض دول الاتحاد الأوروبي لتهديدات إرهابية غير مسبوقة في تاريخها، بالإضافة إلى ما يعنيه هذا التدخل من تحوّل الحرب السورية من حرب عالمية بالوكالة إلى حرب عالمية حقيقية على الساحة الشرق أوسطية.
خامساً: الاطلاع على عمق وحجم التبادل الاقتصادي والتجاري التركي الروسي يجعل من التصعيد العسكري بين الاثنين مستغرَباً، كونه مُكلف للجميع ويضر باقتصاد البلدين، فالسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: ما هي الأهمية الاستراتيجية للمنطقة التي يريد أردوغان احتلالها تحت مسمى "المنطقة الآمنة"، لكي يفرّط بكل المكاسب الاقتصادية والتجارة وأمن الطاقة التي يوفّرها له الروسي؟
في المحصّلة، يبدو التصعيد التركي رسالة أميركية للروس بأن تعديل قواعد الاشتباك في الشمال السوري أمر ممنوع، وأن الحدود التركية - السورية يجب أن تبقى مفتوحة للإمداد والتمويل ودعم المجموعات الإرهابية التي تقاتل الجيش السوري، لعلمهم بأن إقفال تلك الحدود سيقطع المياه عن "السمكة" الإرهابية، ويخنقها، وسيفرض حلاً سياسياً حسب التصور الروسي - الإيراني، والذي أُعلن ضمن الرسالة المشتركة التي أطلقها بوتين والخامنئي من طهران. وهكذا، قال الأميركي كلمته، فهل سيقبل الروسي؟ من الصعب جداً تصديق أن بوتين سيقبل بأن لا تكون الكلمة الأخيرة والنهائية له في الميدان السوري.
2015/11/25
2015/11/18
مقابلة مع راديو فان_ 18 تشرين الثاني 2015
http://www.voiceofvan.net/content/kel-youm-bi-youmo-18112015dr-leyla-nekoula
2015/11/04
ماذا بعد الانتخابات التركية؟
د. ليلى نقولا
تماماً كما نتنياهو قبله، فاجأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجميع، وتخطى كل التوقعات بفشل حزبه في الوصول إلى أغلبية مريحة تمكّنه من تشكيل حكومة وحكم البلاد بطريقة منفردة؛ فقد حقق "حزب العدالة والتنمية" فوزاً كاسحاً بالرغم من أن الأعداد لم تكن على قدر آمال أردوغان، الذي كان يأمل في الحصول على أغلبية ثلثي البرلمان، حتى يتمكّن من القيام بتعديلات دستورية، أهمها تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي بدل البرلماني، وكتابة دستور جديد لتركيا.
لعل كثيرين تحدثوا عن الوسائل التي استخدمها أردوغان وأركان حزبه، خصوصاً أحمد داود أوغلو، للحصول على هذه النتيجة، خصوصاً استخدام العنف والقتل والقلق الأمني، وعدم الاستقرار، بالإضافة إلى خطابات الترويع والتخوين، وترهيب المعارضين، وتهديد الأكراد، بالإضافة إلى الوعود الانتخابية التي أغدقها أردوغان لتشجيع الناخبين، والتي يندرج بعضها ضمن إطار تدخله في الحياة الخاصة والشخصية للأتراك.
وللمتابعين للانتخابات التركية، وهم كثر من داخل تركيا وخارجها، يبدو السؤال الجوهري اليوم: ماذا بعد الانتخابات التركية؟
1- لا شكّ أن الأزمة السورية ستكون أكثر المتأثرين بهذا الفوز الأردوغاني الساحق، والذي سيدفعه إلى مزيد من التعنّت، ومحاولة دفع الأمور إلى التصعيد، لتحقيق مكاسب في الميدان السوري، يحصّل بعدها مكاسب سياسية تجعله من الأطراف الرئيسية التي ترسم مستقبل كل من سورية والعراق.
وللتصعيد الأردوغاني المرتقَب بعد الانتخابات هدفان: إسقاط النظام السوري، أو على الأقل إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، والذي بات العداء الأردوغاني موضوع شخصي أكثر منه سياسي، أو عقلاني. أما الهدف الثاني، فهو ضرب بنية الإدارة الذاتية التي بدأت تتشكل بشكل واقعي، خصوصاً في ظل تحالف الأكراد مع كل من أميركا وروسيا، وتفهّم الدولتين الأخيرتين لمطالب الأكراد المشروعة بحكم ذاتي، بالإضافة إلى إعلانهما - كل على حدى - أن الأكراد جزء لا يتجزأ من استراتيجية المواجهة مع "داعش"، ولطالما كان من الصعب خلال السنوات الخمس الماضية، أن تتفق الدولتان المتنافستان على كسب النفوذ وتوسيع دائرته في الشرق الأوسط على أمر ما بشكل مؤكد؛ فإن اتفقوا تمّ الأمر، وإن اختلفوا طال النزاع، ولعل اللافت اتفاقهما على محورية الدور الكردي، وهو ما يقلق الأتراك بشكل جدّي.
2- على صعيد الداخل التركي، وبالرغم من انتصار "العدالة والتنمية" الذي خيّر الناخبين "أنا أو الفوضى"، لكن الوضع التركي لا يشي بالذهاب نحو الاستقرار الذي وعد به أردوغان شعبه في حال فوزه في الانتخابات، وقد يكون العامل الكردي، والتراجع الاقتصادي والركود والبطالة، بالإضافة إلى قضية الأعداد المتزايدة للاجئين السوريين، وتغلغلهم في البلاد وفي اقتصادها ونسيجها الاجتماعي، عامل من عوامل التأزيم التي لا يمكن ضبطها بسهولة.
3- بالنسبة إلى الأوروبيين التوّاقين إلى تفاهم ما مع تركيا، لضبط موضوع الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وتدفُّق اللاجئين غير المسبوق، فإن الانتصار الانتخابي ووهم فائض القوة الذي تحصّل عليه حزب أردوغان، سيجعل من الشروط التركية أعلى من ذي قبل، ما قد يدفع أوروبا - في ما لو اختارت الخيار العقلاني - إلى الضغط للوصول إلى حل سياسي في سورية، يسمح لهم برفض اللاجئين وإعادتهم إلى بلادهم بدون التشهير بهم في الإعلام العالمي، بالإضافة إلى التنصُّل من مطالب الأتراك بالدخول إلى الاتحاد الأوروبي، أو - على الأقل - السماح للأتراك بالدخول إلى أوروبا بدون تأشيرة، وهو ما قد يغرق الدول الأوروبية بالعمالة التركية ويعزز البطالة الأوروبية، ويخلق تحديات للسلطات الحاكمة ليس أقلّها صعود اليمين المتطرف في كلا الحالتين: فتح الأبواب للأتراك أو للاجئين السوريين.
4- بالنسبة إلى كل من أميركا وروسيا، فلا يضير أي من الدولتين بقاء أردوغان وحزبه في الحكم في تركيا، فالروس يقيمون علاقات اقتصادية غير مسبوقة مع الأتراك، ويطمحون بأن يكون أنبوب السيل التركي بديلاً مقبولاً عن الأنبوب الأوكراني. أما الولايات المتحدة فهي تعتمد بشكل أكيد على الحليف التركي - عضو حلف "الناتو" - لتسيير شؤون المعارضة السورية والمجموعات المسلحة، وقد يكون عودة "حزب العدالة والتنمية" إلى الحكم بشكل منفرد من الأمور التي تريدها الإدارة الأميركية بشدّة، إذ إن الأزمة السورية تمرّ في أخطر مرحلة من مراحلها بالنسبة للأميركيين، وهم يحتاجون إلى حلفاء موثوقين وقادرين ومستقرين لفرض وجهة نظرهم وخياراتهم سواء في الميدان السوري أو في مؤتمرات فيينا.
2015/10/22
ماذا لو لم يتدخل الروس؟
د. ليلى نقولا
في منتصف الصيف المنصرم، غرق
الإعلام بموجة من التصريحات المتفائلة والمتبدّلة، والتي تحدثت عن "تغيير ما"
في النظرة الغربية والإقليمية تجاه الحرب السورية، وأن الشروط السابقة والخلاف حول
مستقبل الرئيس بشار الأسد قد انتهى؛ فلم يعد جون كيري يكرر الموقف الأميركي المعروف
منذ سنوات أربع بأن "الأسد فقد كل شرعيته وعليه أن يرحل"، بل بات يتحدث عن
ضرورة "التفاوض معه"، مستكملاً سلسلة من التصريحات التي أوحت بتطور ما في
الموقف الأميركي، ولو غلّفه كيري بضرورة التفاوض مع الأسد لإقناعه بالرحيل في مرحلة
ما من التفاوض.
ومع كيري، برز حديث رجب طيب
أردوغان في موسكو، معتبراً أنه يمكن للأسد أن يبقى في مرحلة أولية من المرحلة الانتقالية،
على أن يرحل في مرحلة لاحقة، وترافق هذا مع حديث مشجّع للأوروبيين حول ضرورة التفاوض
مع الأسد، بينما بقيت السعودية وحدها تغرّد منفردة، معتبرة على لسان وزير خارجيتها
أنه "لا مكان للأسد في سورية".
وبالتزامن مع كل تلك التصريحات
العلنية، والتي دفعت البعض للتفاؤل بإمكانية الذهاب إلى حل سياسي في سورية، كان المحور
الغربي ومعه حلفاؤه الإقليميون يُعدّون خطة يتصورون أنها ستقلب موازين القوى الميدانية،
وتؤدي إلى احتلال دمشق وإسقاط الأسد عبر هجوم برّي ينفذه الجيش التركي بذريعة إقامة
"المنطقة الآمنة"، وتحدثت تقارير صحفية حديثة أن الاستخبارات الروسية والإيرانية
كشفت خطة بدأ التحضير لها في غرفة العمليات التركية لهجوم على حلب وحمص وصولاً إلى
قطع طريق بيروت - دمشق، "كمقدمة للإغارة الواسعة على العاصمة السورية واقتحامها
في شهر تشرين الأول (الحالي)، فضلاً عن هجوم واسع هدفه السيطرة على حمص والدخول من
سهل الغاب إلى تخوم مدينة اللاذقية الساحلية".
ولعل الكشف عن هذه الخطة الغربية
التي أفشلها التدخل العسكري الروسي في سورية، يوضح الكثير من الأمور التي كان يشوبها
بعض الإبهام، وذلك على النحو الآتي:
1- الهجوم
المفاجئ للاجئين السوريين على أوروبا، بعد سنوات أربع من البقاء في دول الجوار الإقليمي
السوري، متحدّين الموت ورحلات العذاب الطويلة. ينجلي اليوم هذا الغموض، فقد كان أردوغان
بحاجة إلى تغطية أوروبية لتدخّله العسكري في سورية، بحجة إقامة المنطقة الآمنة التي
سيقيم فيها اللاجئون، ولو قُدّر له الحصول على الموافقة الأوروبية بسرعة - قبل التدخّل
الروسي - لانقطع سيل اللجوء السوري إلى أوروبا بقدرة قادر!
2- تراجُع
"تيار المستقبل" عن الوعود التي كان قد قطعها والتسويات التي كان بصدد الدخول
فيها، ثم تعنّت "المستقبل" وحلفاؤه ومعهم بعض قوى 8 آذار في إعطاء العماد
عون أي فرصة لمكسب أو إمكانية النفاذ إلى تسوية مقبولة، والذي ترافق مع الحديث عن عزل
العماد عون وكسره.. وذلك لاعتقاد هؤلاء أنه ما هي إلا شهور وتسقط دمشق بيد الحلف التركي
- السعودي، فيسهل اجتثاث المسيحيين، ويعود لبنان إلى حكم "الترويكا" التي
حكمته خلال التسعينات.
وهكذا، يبدو أن التصريحات المتفائلة
بقرب الوصول إلى حل سياسي في سورية لم تكن سوى نوع من إراحة الأجواء الدولية وذرّ الرماد
في العيون، للانقضاض على دمشق فجأة بعد تمهيد الأرضية الدولية لذلك، بحيث يكون إسقاط
سريع للنظام يُسقط في يد الإيرانيين والروس معاً.. وبالنتيجة، يمكن القول إن السيناريو
المتفائل بأن تنسيقاً ما تمّ بين الأميركيين والروس تدخّل على أثره الروس في سورية،
لم يكن حقيقياً وواقعياً، وإن الخلاف الروسي الأميركي على سوريا أعمق مما يظهر للعلن..
ويتضح أيضاً أن التدخّل الروسي الذي فاجأ الجميع في سورية قد أحبط مخططاً جهنمياً قوامه
احتلال تركي لسورية، كان سيُغرق الشرق الأوسط في أتون من التطهير العرقي وإبادة الأقليات
الدينية.
2015/10/15
بعد الدخول الروسي... كيف سيكون شكل الحكم اللبناني؟
د. ليلى نقولا
لا يشذّ لبنان وسياسيوه عن العالم الذي ينظر مترقباً ومشدوهاً، بانتظار أن يتبلور مصير الحملة الروسية على الإرهابيين في سورية، والتي تترافق مع هجوم برّي يتقدم فيه الجيش السوري على محاور عدّة، بينما اكتفى الأميركيون بالردّ - لغاية الآن - بإلقاء السلاح للمجموعات الارهابية وقصف محطتين للكهرباء في حلب، بذريعة استهداف عناصر "داعش" الذين يسيطرون على المحطة منذ أكثر من عامين، والذي أدّى إلى تدمير المحطات بالكامل، وحرمان حلب من الكهرباء.
وفي لبنان، يستمر مشهد المراوحة وتقطيع الوقت، وانتظار تبلور نتائج الحرب السورية، والتي كلما دخلت منعطفاً مختلفاً وتبدّلت موازين القوى فيها، تبدّل المشهد السياسي اللبناني، وتبدّلت مواقف بعض الأطراف اللبنانية، للتناغم معها، وانتظار فرصة مؤاتية لقضم المزيد من حقوق الآخرين، أو من حقوق المواطنين.
مع بداية الحرب في سورية، حلم "تيار المستقبل" وباقي المجموعات التي تدور في فلكه، بسقوط وشيك لسورية، وأن قيامهم بدعم "الثورة السورية" سيتيح لهم حكم لبنان وسورية معاً، وأن القضاء على النظام السوري سيكون مقدمة للقضاء على المقاومة في لبنان، والثأر لحرب تموز 2006 وما بعدها، لكن حساب الحقل السوري لم يطابق بيدر "تيار المستقبل" ومن ورائه السعودية وقطر وتركيا والحلف الغربي، فصمد السوريون، ووعت المقاومة خطورة ما يتهددها، فانخرطت في الحرب السورية في أوائل عام 2013، وبدّلت موازين القوى على الأرض.. وساهم سقوط المشروع "الإخواني" بحلحلة العُقد اللبنانية وتشكيل حكومة وحدة وطنية ما زالت تترنح لغاية اليوم، ولا تسقط.
استمرت حال التهدئة، ودخل الرئيس سعد الحريري في حوار مع العماد ميشال عون، وتمّ الاتفاق على تفاهمات داخلية سرعان ما أتى سقوط جسر الشغور وتقدُّم المجموعات المسلحة السورية على حساب الجيش السوري ليسقط التفاهمات اللبنانية بالضربة القاضية، ويؤدي إلى سيادة منطق وفكر إلغائيَّين مارسهما "المستقبل" وانخرطت فيهما بعض المجموعات السياسية الأخرى، وعاد البعض إلى المنطق الذي ساهم مع عوامل عدّة في إشعال الحرب اللبنانية في 1975، وهو منطق العزل والكسر لفئة من اللبنانيين.
ومع دخول الروس اليوم، يسود منطق الانتظار لانجلاء غبار المعارك، وعلّ التسوية في لبنان تأتي مكمّلة للتسوية في سورية، وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن اتجاهات عدّة للحل:
1- أن يؤدي الانتصار الميداني الروسي - السوري للاتيان برئيس ينتمي إلى المحور المنتصر.
2- أن يدخل الروس في تسوية شاملة في المنطقة، بعد تغيير موازين القوى التي تدفع الغرب وحلفائهم الإقليميين بالقبول بالذهاب إلى الحل السياسي، ويبقى السؤال هنا: هل ستسمح موازين القوى للروس بالوصول إلى تسوية تأتي بالرئيس السوري بشار الأسد ومعه رئيس لبناني ينتمي إلى المحور الذي يمثّلونه، أم أن عليهم أن يتخلوا عن أحدهما؟
3- أن ينهزم الروس في سورية، فتتمّ الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، ومعه يأتي رئيس لبناني يشبه ميشال سليمان.
الأكيد أن الروس لن يُهزموا في سورية، وأن المحور المتشكّل من حدود لبنان إلى سيبيريا مروراً بسورية والعراق وإيران يمتلك الكثير من مقومات القوة التي تجعله عصياً على الانهزام، بينما يعاني الحلف المقابل من تصدعات داخله، وتمرّ أذرعه الإقليمية بفترات من عدم الاستقرار والتوتر، ما قد يجعل من الصعب جداً عليهم الانتصار أو إغراق الروس في المستنقع السوري.
والأكيد، بحسب ما صرّح الروس، أنهم يريدون توظيف أي انتصار ميداني في خدمة تسوية شاملة مع الأميركيين في المنطقة، فما الذي يمكن أن يكون عليه شكل الحكم القادم في لبنان؟
في البداية، من الضروري التأكيد أن الدول ليست جمعية خيرية، وليست ذات مبادئ عقائدية، وأن الروس سيأخذون بعين الاعتبار مصالحهم بالدرجة الأولى، لكن، سواء كان الروس أو الأميركيون أو سواهم، فإن قرارات الدول الكبرى لم تعد بالنسبة إلى شعوب المنطقة قدراً محتوماً، ومن يراهن على أن الروس يستطيعون حسم كل شيء في المنطقة مع الأميركيين يبدو واهماً، ولنتذكر في هذا المجال التصريحات التي أطلقها بوغدانوف خلال عامي 2012 و2013 حول مصير الرئيس السوري، وإبدائه آراءً حول رؤية موسكو بأن على الأسد ألا يترشّح للرئاسة عام 2014.. فها هي موسكو اليوم تعيد النظر وتعتبر الرئيس السوري من صلب استراتيجيتها في المنطقة.
وقياساً على ذلك، فإن موازين القوى المحلية اللبنانية يمكن أن تلعب عاملاً حاسماً في تحديد هوية وصورة وشكل الحكم اللبناني بعد التسوية وقبلها، شرط أن يتحلى اللبنانيون بالصبر والقوة وصلابة الإرادة لفرض ما يريدونه على القوى الكبرى، وللقول للعالم: انتهى عصر الأوامر الخارجية، وجاء عصر القرار اللبناني الحر.
2015/10/08
التدخل الروسي: تنسيق أم مواجهة قادمة الأميركيين؟
د.
ليلى نقولا
بعد
أن أستطاع الروس فرض حظر جوي واقعي فوق الأراضي السورية، تتسارع التقديرات والتكهّنات
حول مستقبل الأزمة السورية، في ظل تغيّر موازين القوى على الأراضي السورية، وانقلاب
المشهد الميداني رأساً على عقب، بعدما كانت المجموعات المسلحة قد استطاعت في الأشهر
القليلة الماضية توسيع رقعة نفوذها.
وبما
أنه معروف في علم العلاقات الدولية، أن الميدان يلعب لصالح السياسة وليس العكس، انطلاقاً
من مقولة كلاوسفيتز إن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى، فما هي السناريوهات التي
يمكن أن يخلقها التدخل العسري الروسي في سورية؟
السيناريو
الأول: أن يكون الأميركيون والروس قد اتفقوا مسبقاً على التدخل الروسي؛ حيث يقوم الروس
بما لم يستطع الأميركي أن يقوم به لجهة ضبط تصرفات حلفائه الإقليميين، وإعادتهم إلى
بيت الطاعة الأميركي، بعد أن شهدت الأعوام الأربعة الماضية جنوح السعوديين والأتراك
إلى ما يشبه التمرد، أو على الأقل التململ و"تكبير الحكي" ضد السياسة الأميركية،
ونذكر منها التهديد السعودي بالبحث عن حلفاء آخرين.
بهذا
السيناريو، يقوم الروس وحلفاؤهم بالقضاء على المعارضة المسلحة التابعة للأتراك والسعوديين،
خصوصاً "جيش الفتح"، ما يدفع الدولتين الإقليميتين الراعيتين للمجموعات المسلحة
للذهاب مرغمتين إلى حل سياسي في سورية، بعد فرض الميدان السوري إيقاعه على الجميع،
وتكبيدهم خسائر كبرى.
وقد
تكون لهذا السيناريو تصوراته المحقة والمترافقة مع إمكانية فشل حزب أردوغان في الانتخابات
التركية المزمع إجراؤها في الأول من تشرين الثاني المقبل، والتي قد تؤدي إلى أزمة سياسية
داخلية، تترافق مع القلق الاقتصادي المتنامي، وهبوط سعر صرف الليرة التركية. أما بالنسبة
إلى السعودية، فإن الممكلة المتهالكة بحروب الأمراء في الداخل، تعيش أسوأ كوابيسها
في حرب خرجت إليها في اليمن، ولا تعرف كيف تنهيها.
السيناريو
الثاني: أن يكون الروس قد استغلوا التردد الأميركي في المنطقة، وفشل خططهم السياسية
والعسكرية على مدى سنوات أربع، فأتوا في لحظة تاريخية مفصلية، وتدخلوا حيث الحلف الغربي
في أسوأ لحظات له منذ اندلاع الحرب السورية، ليحصّلوا مكاسب استراتيجية كبرى سيحصدونها
في ملفات عدّة، أقله في "الشرق الأوسط" وأوكرانيا، وكسر العقوبات الدولية
التي أنهكت الاقتصاد الروسي.
في هذا
السيناريو، نجد أن الأميركيين أعلنوا فشل برنامج تدريب "المعارضة المعتدلة"،
وانهيار "غرفة الموك" على الجبهة الجنوبية، وقيام الفصائل الجنوبية بالبحث
عمن يؤمّن لها المال، وبعضهم قرر الذهاب إلى أوروبا.
أما
الأوروبيون، وبالرغم من أن للهجرة السورية إلى أراضيهم تأثيرات اقتصادية جيدة، لكن
عدم قدرتهم على تحديد مَن يدخل ومَن لا يدخل، وإمكانية اندساس الإرهابيين بين اللاجئين،
بالإضافة إلى القلق من تنامي نفوذ أحزاب اليمين المتطرف في أنحاء أوروبا، تجعلهم أكثر
قُرباً لتفهُّم الدوافع الروسية، والترحيب الضمني بأي واقع جديد يمكن أن يفرضه هذا
التدخل، وهكذا يكون الروس قد استطاعوا النفاذ من نافذة تناقض المصالح بين الأميركيين
والأوروبيين.
وخارج
إطار السعودية وسياستها المعروفة بالهروب إلى الأمام، والتصعيد كلما لاحت بادرة انفراج
ما في القضية السورية، والتي أخرجت أبواق الفتنة لتعلن "الجهاد" ضد الجيش
الروسي، ولتحرّف المراد من قول أحد المسؤولين في البطريركية الروسية، فتحاول جعل القضية
حرباً بين المسيحيين والمسلمين!! يحسب الأميركيون والأوروبيون والأتراك خطواتهم ومواقفهم من التدخل الروسي
بدقّة، ويحسب كل منهم هامش الخطأ الدقيق الذي يمكن أن يؤدي إلى حرب عالمية بالأصالة،
بعد أن استمرت أعواماً أربعة بالوكالة على الأراضي السورية، فتبرز التصريحات الدولية
والإقليمية التي تتعامل مع قصف الروس لأدواتهم على الأرض كأمر واقع لا مفر منه، وتكتفي
بإبداء "القلق" والرغبة في التنسيق.
وهكذا،
وبغض النظر عن أي من السيناريوهات، يملك التوصيف الأقرب إلى الواقع، يبقى الثابت المشترك
بين كل السناريوهات أن الروس والأميركيين لن يتقاتلوا مباشرة فوق الأراضي السورية،
كما يمكن القول إن الروس قد حققوا أهدافاً عدّة منذ اليوم الأول لحملتهم الجوية، وفرضوا
أنفسهم لاعباً دولياً لا يمكن تخطيه في منطقة "الشرق الأوسط".. والأكيد،
أن ما بعد التدخل العسكري الروسي في سورية مختلف عما قبله، والأكيد أيضاً أن هذا التدخل
قد أدخل "الشرق الأوسط" برمّته في انعطافة جديدة، سيحدد مصيرها نجاح الحملة
العسكرية الروسية، التي ستترافق حتماً مع تقدُّم برّي سيقوم به الجيش السوري وحلفاؤه
على الأرض.. ويبقى الميدان الحَكم وصاحب القرار.
2015/09/26
2015/09/24
مبادرة بوتين: هل من أفق للنجاح؟
د. ليلى نقولا الرحباني
بالتزامن مع انخراط الروس عسكرياً - بشكل علني - في الحرب
الدائرة في سورية، ينوي الرئيس فلاديمير بوتين طرح مبادرة جديدة خلال اجتماع مجلس الأمن
على المستوى الوزاري الذي تترأسه روسيا في 30 من أيلول الجاري، لتشكيل جبهة موحَّدة
ضد الإرهاب، تضمّ جميع الأطرا ف الدولية والإقليمية، بما فيها تركيا ودول الخليج، إلى
جانب الدولة السورية.
السفير الروسي في لبنان؛ ألكسندر زاسبكين، تحدّث عن بعض
بنود هذه المبادرة، فحدّدها بمراحل ثلاث؛ تنص المرحلة الأولى على ضرورة توحيد جميع
الأطراف لضرب تنظيم "داعش" الإرهابي في سورية، تحضيراً للاتفاق السياسي لحل
الأزمة، بينما تؤمّن المرحلة الثانية دعوة القوى الإقليمية والدولية المؤثّرة للضغط
على المجموعات المسلحة للقبول بالحل السياسي، أما المرحلة الثالثة فتقتضي توحيد الجهود
الإقليمية والدولية لوقف تمويل المجموعات المسلّحة، ومنع عبور المسلحين عبر حدود الدول
المجاورة لسورية.
ومع انطلاق المبادرة الروسية، والحديث الأميركي والفرنسي
المستجد عن التراجع عن بند "ضرورة رحيل الأسد كمقدمة للحل السياسي"، ما هي
مؤشرات نجاح تلك المبادرة؟
بالنسبة للدول الإقليمية: بعد الخسائر التي مُنيت بها
الجبهة الجنوبية، وخوف الملك الأردني من تزايد نفوذ "الإسلاميين" في سورية،
ما قد يغريهم للإطاحة به في المملكة، يبدو أن الأردن لا يمكن أن يشكّل عقبة في وجه
الحل السياسي، ولا يمكن أن تستمر الجبهة الجنوبية في القتال في حال قرر الأميركيون
الذهاب إلى الحل السياسي.
لكن يبقى هناك إمكانية عرقلة الحل من قبل السعودية وتركيا:
السعودية: الغرق المتدحرج للسعودية في الوحول اليمنية،
والخلافات التي تنشب بين أفراد العائلة المالكة، والتقارير المالية التي تشير إلى استنزاف
موارد الخزينة السعودية - في ظل تراجع أسعار النفط - والصفقات والسمسرات والفساد والاختلاس
وكلفة الحرب على اليمن، ستجعل السعودية مجبَرة في وقت من الأوقات على الانخراط في حلف
جدي لمحاربة الإرهاب، وإلا كان الثمن باهظاً في الداخل السعودي، وعلى مستقبل المملكة
ككل.
أما بالنسبة لتركيا، فليست حال تركيا بأفضل من السعودية،
خصوصاً في ظل تنامي الحديث الغربي عن اتجاه تركي لحرب داخلية طويلة، هذا بالإضافة إلى
زيادة البطالة، وتراجع سعر صرف الليرة التركية، كما الأزمة السياسية المرتقَبة في حال
أسفرت الانتخابات عن عدم فوز حزب أردوغان بالغالبية التي تجعله يحكم منفرداً، وهو المرجَّح.
وهكذا، ما هي إلا شهور وستكون السعودية وتركيا مجبَرتان
على الانخراط في التسوية الإقليمية الكبرى، وإلا خسرتا كل شيء، لأنه عندما يحين أوان
التسوية، سيكون ممنوع على أحد عرقلتها.
أما بالنسبة للأوروبيين، وبالرغم من أن موجات اللجوء
السوري إلى أوروبا تشكّل رافداً اقتصادياً هائلاً للمجتمعات الهرمة في أوروبا، وبالرغم
من حاجة الأوروبيين إلى يد عاملة غير مدرّبة، بالإضافة إلى حاجتهم إلى الأطباء ويد
عاملة تدفع الضرائب لتنتشل صناديق الضمان من أزمتها المالية، بسبب زيادة عدد المتقاعدين،
إلا أن اندساس الإرهابيين مع موجات اللجوء إلى أوروبا يشكّل قلقاً أمنياً للأوروبيين،
يحتاجون معه إلى مزيد من المعلومات الاستخبارية والأمنية، وهذه بمعظمها بيد الجيش السوري
ومخابراته.
إذاً، هل آن أوان الحل في سورية؟
بالرغم من المؤشرات الإيجابية، إلا أن تلك المؤشرات لا
توحي بأن الأزمة في مصيرها للحل خلال وقت قصير، فالتطورات الإقليمية تحتاج إلى وقت
لكي تتبلور ضغوطاً داخلية واستراتيجية على الدول الإقليمية لتقبل بقطع الإمداد والتمويل
عن المجموعات الإرهابية، ولغاية الآن، لا يبدو الأميركيون جديّين في الذهاب نحو التسوية
الكبرى في المنطقة، ولا يبدون جديين في محاربة "داعش" التي استطاعت معها
الولايات المتحدة أن تعود إلى الساحة الشرق أوسطية من باب "الحرب على الإرهاب"
مجدداً، وإلى أن يحين الأوان، سيبقى الميدان السوري هو الحكم على التطورات المستقبلية
والموجّه لها.
2015/09/10
إنسانية اوروبية تجاه السوريين.. ولكن!
د. ليلى نقولا الرحباني
يوماً بعد آخر تزداد الأزمة
الإنسانية السورية صعوبة، ويتقاطر السوريون أفواجاً للقرع على أبواب الاتحاد الأوروبي؛
في مشهد كارثي إنساني لم يشهد التاريخ الحديث مثله.
ومع تكاثر قوارب الموت في المتوسط،
ومع انتشار صور الذلّ على طرقات الهجرة إلى الأمان والاستقرار، وتصاعد الخطاب اليميني
المتطرف في أنحاء أوروبا، مقابل تعاطف شعبي فجّرته صورة الطفل إيلان الكردي "النائم"
على ضفاف المتوسط، يبدو مشهد اللجوء السوري بهذه الطريقة في أجزاء منه متوقَّع، وفي
أجزاء أخرى مستغرَب، وذلك للأسباب الآتية:
1- من الطبيعي
أن يفرّ السوريون من الموت والدمار في مناطقهم إلى مناطق أكثر أمناً، وإن كانوا اليوم
بدأوا بتوسيع مروحة خياراتهم إلى البلدان الأبعد من جوارهم الإقليمي، فلأن دول الجوار
قد استقبلت الملايين منهم، إلى حد جعلها تنوء تحت ضغط اللجوء السوري، ولم تعد تستطيع
استيعاب عدد أكبر من اللاجئين.
2- حملة التضامن
الإنسانية العالمية طبيعية، كما من المنطقي أن يتضامن المجتمع المدني العالمي مع مآسي
السوريين، ويدعو دول أوروبا ودول العالم كافة إلى استقبال اللاجئين السوريين، بعد الصور
التي هزّت ضمير العالم، وحرّكت أشياء ومواجع في أكثر القلوب تحجّراً.
ولكن!
أ- من المستغرَب أن تصدح أصوات بعض الرؤساء في
الاتحاد الاوروبي - ومنهم ميركل - بالإنسانية والتعاطف وضرورة استقبال اللاجئين، وهي
في وقت قريب جداً كانت قد ظهرت في فيلم فيديو وهي قاسية القلب متحجّرة، تقول لطفلة
فلسطينية لاجئة: "عليكم بالرحيل، فإنْ قبلنا بكم، سيأتي كل اللاجئين الفلسطينيين
من لبنان، وسيأتينا لاجئون من أفريقيا"! فما الذي حوّل المرأة الحديدية ذات القلب
المتحجّر، التي سلخت جلد اليونانيين وأذلّتهم ورمتهم في المجهول، إلى "ماما أنجيلا"
التي يبتهل اللاجئون السوريون بالدعاء لها ليل نهار؟
ب- من المستغرَب أيضاً هذه المفاجأة الأوروبية بحشود
اللاجئين السوريين، علماً أن بعض دول الاتحاد الأوروبي مساهمة بالحرب العسكرية والاقتصادية
على الشعب السوري، وكان من الطبيعي التوقُّع أن موجات بشرية من الفارين من المجهول
والموت ستقتحم أوروبا.. ثم، كيف هبطت الإنسانية فجأة على هؤلاء، وهم أنفسهم من دمّر
العراق وليبيا ودفعها نحو أتون الحرب والإرهاب الذي أدمى البشر والحجر؟
ت- ومن المستغرَب كيف أن دول الاتحاد الأوروبي ودول
العالم تبحث عن حلول لمشكلة اللاجئين المتفاقمة، من خلال تأمين مأوى لهم، أو مدّهم
بالمساعدات الإنسانية، بينما الحلّ سهل جداً، وأمام أعين الجميع: المساهمة في إيقاف
الحرب في سورية يسمح لهؤلاء بالبقاء في بيوتهم بكرامتهم.. والمساهمة الأوروبية تتجلى
في توقُّف الأوروبيين أنفسهم عن دعم الخيار العسكري، والضغط من أجل توقّف الدول الإقليمية
بمدّ الإرهابيين بالمال والرجال والعتاد، والسعي الحثيث إلى حل سياسي يجلس فيه الجميع
إلى طاولة الحوار السوري، بدون شروط مسبقة معروف سلفاً أنها ستنسف أي دعوة للحل.
ث- ولعل أكثر وجوه الغرابة في الحرب السورية الدائرة
منذ سنوات خمس، التشجيع على النزوح والهجرة، وعندما نقول تشجيع فإننا لا نبالغ، فالمنظمات
الإنسانية كانت قد مارست وسائل الترغيب والتشجيع للسوريين للنزوح إلى لبنان، وذلك مثبت
بالدلائل والأرقام، والمتقدّم خلال هذه السنوات بطلب فيزا إلى الدول الاوروبية يُدرك
تماماً أن بعض سفارات الدول الأوروبية كانت تشجّع السوريين على التقدم بطلب لجوء، لا
بل إن بعض تلك السفارات كانت تفضّل طالب اللجوء على طالب الفيزا السياحية، علماً أن
التقارير المنشورة منذ صيف عام 2011، ومنذ الأشهر الأولى للقتال، تفيد أن السويد -
على سبيل المثال لا الحصر - أعدّت مراكز إيواء ولجوء لستين ألف سوري، لكنهم تأخّروا
في المجيء!
في المحصلة، تدفعنا الكارثة
الإنسانية السورية، وهذه الصور المفجعة، سواء من الحرب الدائرة أو من قطع الرؤوس في
مناطق "داعش"، أو من صور الموت والذلّ في الرحلة إلى أوروبا، إلى التفكير
عميقاً في ما ينتظر هذه المنطقة بعد سنوات من الحرب، وما هي نتائج هذا التغيير الديمغرافي
على كل من منطقة الشرق الأوسط وأوروبا على حد سواء، وإن كانت الدهشة الأوروبية من جحافل
اللاجئين صحيحة وليست مصطنعة، فماذا يُنتظر من شخص يقوم بالحفر تحت رجليه، ويتوقع أنه
بمأمن عن السقوط؟
2015/09/03
لبنان الى الفوضى ؟!
د. ليلى نقولا
الرحباني
وفي الخطوة الثالثة،
تحرّكت مجموعات المجتمع المدني صوب وزارة البيئة، لتعتصم سلمياً داخلها، وتطالب وزير
البيئة محمد المشنوق بالاستقالة، وتعيد الحراك إلى النقطة الأولى؛ بالتركيز على الموضوع
الأساس الذي بدأت الحملة من أجله، وهو "الزبالة" المنتشرة في الطرقات، والتي
باتت مشكلة بيئية وصحية وإنسانية تطال كل إنسان في صحته وصحة أولاده، وفي حياته، وتلحقه
بروائحها وأمراضها إلى داخل بيته.
بغض النظر عن صوابية
التحرك الأخير الذي قامت هذه المجموعات الشبابية، وهل كانت هذه الخطوة مفيدة للحراك
كما يصفها البعض، وأن "إنجاز" احتجاز الوزير لساعات يقوي الحراك ولا يضعفه،
أو "متهورة" كما يصفها البعض الآخر من مجموعات الحراك، التي وجدت فيها حرفاً
للأنظار عن المتهم الرئيسي بهذه الكارثة، أي السلطة السياسية المتعاقبة منذ عام
1992، والتي أفسدت وهدرت الأموال وملأت جيوبها، إلا أن أحداً في الإعلام لا يذكر كيف
نشأت "سوكلين وأخواتها"، وكيف أهدرت موارد الدولة اللبنانية على محاصصة النفايات
وغيرها، وكيف هُمّشت البلديات وحُجبت عنها أموالها لصالح شركات خاصة، ما منع تطوير
النطاق البلدي، وحرم البلديات موارد مالية هي لها بموجب القانون.
بغض النظر عن كل ذلك،
يبقى أن هناك بعض الأسئلة - الهواجس التي تثير قلقاً مشروعاً لدى فئة لا يستهان بها
من اللبنانيين:
1- غياب الرؤية
والخطاب الموحّد للحراكات التي "فرّخت" أسماء لا تُعدّ ولا تحصى؛ فما الذي
يجمع حركة الشعب ومجموعات البعث العراقي وبعض مجموعات القوميين السوريين ببقايا حركة
اليسار الديمقراطي التي نزلت تحت شعار "عالشارع"، والتي ظهر أن كل هدفها
التصويب على العماد عون والسيد حسن نصرالله؟
2- ما الذي يجمع
القوميين العرب والوزير شربل نحاس وحنا غريب ومحمد قاسم، بعماد بزّي المعروف بانتماءاته
وتاريخه، والذي عبّر يوماً على مدونته - التي لم يسمع بها أحد وبالرغم من ذلك اعتبرها
الأميركيون "الأكثر تأثيراً في العالم العربي"، ومنحوه جائزة لأجلها في بداية
"الربيع العربي" - عن انتمائه الواضح بالقول: "أنا، وعلى الرغم من أنه
لا مرشح لـ14 آذار في منطقتي، إلا أنني أعتبر نفسي من القوة الناخبة، لأنني صوت بورقة
بيضاء؛ كدلالة على أن خياري لا يمر برعد ولا خيبر و لا زلزال ولا رضوان ولا حتى تبنين،
بل كنت أصوّت وقلبي في البقاع الغربي مع أمين وهبي، وفي زحلة مع عقاب صقر"؟
علماً أن الادّعاء
بأن دخول هؤلاء إلى الحراك يمنع تحركه المشبوه واستغلاله من قبل بعض السفارات، تدحضه
تجارب "الربيع العربي"، حيث تحالف القوميون العرب مع "الإسلام السياسي"،
فكانت النتيجة أن أقصاهم بعد أن اكتسب مشروعية شعبية واطمئناناً شعبياً، "لعدم
انحراف المسار عن خدمة إسرائيل"، كما قيل حينها.
3- أما التساؤل
المحوري والأهم: كيف يمكن لمجموعة أحقاد متفجرة في ساحة أن تؤسس لبناء وطن؟
فما أن بدأ الحراك،
حتى سمعنا بعض الشيوعيين يعبّرون عن ضرورة إسقاط النظام الذي سمح لحزب الله "باحتكار
المقاومة في الجنوب بعد التسعينات".. وبعضهم الآخر فجّر أحقاداً على المجتمع اللبناني،
الذي هو في نظرهم "غشيم، وغنم، ولديه مركبات نقص طائفية"، وبعضهم عاب على
بعض الأشخاص في الحراك تأييدهم للنظام السوري، في حين أن ولاء هؤلاء للثورة السورية
لم يمنع أولئك من المشاركة في التظاهرات ودعم الحراك.
في النتيجة، يبدو
مشهد الشاشات والساحة والاعتصامات والهتافات والتغطية الإعلامية للقنوات اللبنانية
وكأنه "فيلم حاضرينو"، فقد شاهدناه مرات عدّة؛ في تونس ومصر واليمن وليبيا
وسورية.. وهكذا، يجد اللبناني نفسه أمام مفصل تاريخي خطير، فإما أن يسمح لأصابع خفية
بأن تجرّه إلى الفوضى التي تعيش فيها معظم دول "الربيع العربي"، أو يقف وقفة
تاريخية أمام ضميره، ويعود إلى العقلانية فيقول إن الحلول للتخلص من هذا النظام ليست
سحرية، وليست بالضربة القاضية في الشارع، ولا يمكن أن تكون إلا بالعودة إلى صناديق
الاقتراع، وإعطاء الشعب فرصة لإعادة تكوين السلطة من غير الفاسدين الذين "طلعت
ريحتهم".
2015/08/27
مع المطالب المشروعة ولكن!
د. ليلى نقولا الرحباني
كانت الانتفاضة التي هبّت
في لبنان طبيعية في ظل الفقر والتهميش والمعاناة، واستمرار قوى السلطة الحاكمة المستأثرة
بغيّها وظلمها وفسادها، ضاربة بعرض الحائط كل المطالبات والمناشدات بالشراكة، والاستماع
إلى صوت الشعب، والكفّ عن تخطي الدستور والقوانين..
لكن، ما أن نزل اللبنانيون
بالآلاف إلى الساحات حتى ظهرت مفارقات عدّة جعلت الظاهرة الممتازة تختلط بالكثير من
التساؤلات والإشكاليات التي نذكر منها ما يلي:
1- محاولة السلطة ترهيب المتظاهرين
من خلال إعطاء الأوامر للقوى الأمنية بالعنف والشدّة المفرطة وغير المبرَّرة، وذلك
لأن التظاهرة السلمية شكّلت مصدر قلق للسلطة السياسية الحاكمة منذ عقد التسعينات، والتي
انتبهت فجأة إلى أن الشعب بكافة طوائفة وفئاته بات قاب قوسين أو أدنى من الانفجار،
وفي هذا تهديد لنفوذها وفسادها المتمادي منذ الطائف، والتي لم تعد تنفع معه الادعاءات
المذهبية التي ما انفكت تتهم بأن كل من يطالب بمحاكمة من سرق أموال الدولة اللبنانية
منذ عام 1992، إنما هو يمسّ بالرئيس رفيق الحريري، ويمسّ بالطائفة السُّنية، وفي هذا
الادعاء ظلم للسُّنة قبل غيرهم من المدعى عليهم بهذا الاتهام المذهبي والطائفي.
2- وإذا كان عنف السلطة معروفاً
ومتوقَعاً، فما لم يكن متوقعاً - على الأقل من قبَل الناس العاديين المشاركين بالتظاهرة
- فهو تصرُّف الجهة الداعية إلى التظاهرة، أي حركة "طلعت ريحتكم"، وفيه:
أ- النزعة الحادة للإلغاء والاستئثار ورفض الآخر،
وقد ظهرت من خلال البيانات والخطب والتصريحات لمنظمي التظاهرة الأساسية، والتي ظهرت
وكأنها تريد أن "تفحص" أهلية كل مواطن، وإن كان يحق له المشاركة أم لا، وبدا
حالهم كحال التكفيريين المنتشرين في المنطقة؛ إما أن تكون مثلنا ومطابق لنا في فكرك
وتوجهاتك، أو ممنوع عليك أن تكون بالأساس.
وقد ظهر هذا الأمر خلال
التظاهرة وبعدها، خصوصاً من خلال بيان الجمعية الذي طالب القوى الأمنية باعتقال
"جميع من بقي في الساحة بعد إعلان الجمعية عن فكّ اعتصامها"، وهو يعني أن
كل من لا ينتمي إلى المجموعة إياها، هو مجرم يستحق الاعتقال برأيها، بغض النظر عن الفعل
الذي يقوم به.
ب- النزعة الطبقية المقيتة التي ظهرت من خلال الكلام
العنصري الذي انتشر على الصفحة الرسمية لمنظمي التظاهرة، والذي يشي بأن "كل فقير
هو بالسليقة مندس"، ثم ما لبثت أن تحوّلت الطبقية فيما بعد إلى عنصرية طائفية
تتهم أهل "الخندق الغميق" بأنهم نزلوا إلى التظاهرة لتخريبها! وكأن الفقراء
لا مكان لهم في تظاهرة "المجتمع المدني المودرن"، بل بات هؤلاء بفقرهم وغضبهم
المكبوت مصدر إزعاج ، لذا ممنوع عليهم المشاركة في تظاهرة حاكت أوجاعهم وآلامهم وقهرهم
المستمر منذ عقود.
ت- التعميم اللا أخلاقي
واللا منطقي الذي مارسه منظمو التظاهرة ومن يدور في فلكهم؛ بأن وضعوا "الجميع
في سلة واحدة"؛ فالكل فاسد والكل مرتهَن، ولا فرق بين القوى السياسية، ونقطة عا
السطر ولا نقاش في ذلك.
اللافت أن مطالب المتظاهرين
كانت هي نفسها المطالب التي طالب بها العماد عون في وقت سابق، وبالرغم من ذلك فإن هذا
لم يعفه، بنظرهم، من مسؤولية التمديد لمجلس النواب - الذي كان تكتل التغيير والاصلاح
الوحيد قد رفضه - ولم يعفِ وزير جديد في الحياة السياسية ومشهود له بالكفاءة ونظافة
الكف من أن يتعرّض لكلام حاقد والتبجح بطرده من الساحة، وكأن الساحة باتت ملك منظمي
التظاهرة وليست ملك أي مواطن لبناني طامح للتغيير.
ث- الشبهات التي تحوم
حول منظمات "المجتمع المدني" بشكل عام، فالمواطنون كانوا قد لبّوا دعوة حركة
"طلعت ريحتكم" انطلاقاً من شعورهم بضرورة التغيير، وأنه آن الأوان للمساءلة
والمحاسبة وإسماع المعنيين صوت الشعب، بدون أن يعرفوا أو يستفسروا بالضبط من هي الجهة
الداعية، ومن أين تأتي بتمويلها، أو ما هو برنامجها لما بعد المطالبة بمعالجة مشكلة
النفايات المتراكمة.
وفجأة ظهرت أمامهم صيحات
"الشعب يريد.." في محاولة تكرار مرعب لسيناريو لـ"الثورات العربية"،
فعادت إلى الأذهان "وصفات الثورات الملونة" المصنوعة في أميركا، والتي امتدت
من البلقان إلى العالم العربي ثم إلى أوكرانيا مرة أخرى.. وبدأت الأنظار تتجه إلى منظمي
التظاهرة وارتباطاتهم الخارجية، وتمويلهم الخارجي المعروف.. وعندها عُرف سبب مهاجمة
العماد عون، وبطل العجب.
بالنتيجة، لا يمكن لأي
مواطن لبناني مؤمن بلبنان وطامح لدولة قانون تحفظ له مواطنيته وتحترم حقوقه وتحميه،
إلا أن يكون مع المطالب التي يتم رفعها في ساحات التظاهر في رياض الصلح وساحة النجمة..
لكن، ليس كل ما يلمع ذهباً، ولكي نقتنع حقاً بأن ما يُعرض علينا هو ذهب خالص، على منظمي
التظاهرة أن يتواضعوا، فيعندوا الى تقويم التجربة، ويصححوا المسار، ويثبتوا عدم تلقيهم
الإرشادات والتوجيهات من السفارات كمعظم منظمات المجتمع المدني "المشبوهة"
في العالم.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)