د. ليلى نقولا الرحباني
يكن هجوم الرئيس التركي رجب
طيب أردوغان على "أمثال لورانس العرب الجدد" الذين قال "إنهم مصممون
على إحداث الاضطرابات في الشرق الأوسط، وإنه رمز للتدخل الخارجي غير المرغوب فيه في
المنطقة التي يجب أن يكون لتركيا نفوذ فيها"، خارجاً عن السياق العام للصراع الدائر
في المنطقة اليوم، وعن حرب النفوذ الدائرة بشراسة بين كل من تركيا والسعودية.
اللافت أن أردوغان استعار في
خطابه إشارات تشير إلى حقد تاريخي على إسقاط الإمبراطورية العثمانية، ورغبة منه في
عدم تكرار الماضي، لا بل استعادة ما قد يعتبره "سُلب" من تركيا العثمانية
في أوائل القرن المنصرم.
وللتذكير، فإن "لورانس
العرب" هو الضابط البريطاني الذي شجّع الثورة العربية المشتعلة في شبه الجزيرة
العربية، ضد الإمبراطورية العثمانية، ما أدّى - من جملة أسباب - إلى سقوطها، وتقسيم
المناطق العربية الخاضعة لها ضمن اتفاقية "سايكس بيكو"، التي أشار إليها
أردوغان في خطابه أيضاً.
المتابع للحراك الإقليمي الدائر
في المنطقة منذ بروز "دولة داعش" الإرهابية واحتلالها أجزاء كبيرة من العراق،
وتهديدها المناطق الكردية، يجد أن الصراع التركي - السعودي المتفجّر منذ سقوط مشروع
"الإخوان المسلمين" في المنطقة، قد اتخذ منحى تصاعدياً، وبات يتخذ من سورية
والعراق مسرحاً لعملياته الإلغائية، وذلك من خلال أوراق عدّة، منها "قتال داعش"
و"المعارضة السورية المعتدلة"، ضمن الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
كشف الأميركيون عن استراتيجيتهم
الجديدة للشرق الأوسط خلال مؤتمر جدّة لمكافحة الإرهاب، فكان الاعلان عن خطة لتدريب
وتجهيز المعارضة السورية "المعتدلة"، والتي سيكون من مهمتها التخلص من
"داعش" والنظام السوري معاً، وأوكلت مهمة تدريب وتجهيز هذه المعارضة إلى
السعودية.
امتنع الأتراك عن التوقيع على
البيان الختامي لمؤتمر جدّة، لأنهم وجدوا في مكان انعقاده والإعلان عن قيام السعودية
بتلك المهمة نوعاً من التهميش المقصود لدور أنقرة في المنطقة، وإعادة تعويم "محور
الاعتدال"، في محالة لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل الحراك العربي، خصوصاً مع
الإعلان السعودي عن حظر جماعة "الإخوان" باعتبارها إرهابية.
وفي خطوة مرتدّة، حاولت تركيا
أن تستخدم موقعها الاستراتيجي لإعادة فرض نفسها لاعباً إقليمياً، وقطباً أساسياً في
الحرب الأميركية على الإرهاب، فقامت بخلط الأوراق في سورية، من خلال التخلص من الأكراد
والحديث عن ضرورة فرض منطقة عازلة يسيطر عليها الجيش التركي، وتقوم فيها تركيا بتدريب
المعارضة السورية "المعتدلة".
وبالرغم من عدم قدرة وعدم رغبة
الأميركيين في السير بخيار المنطقة العازلة، لما لها من محاذير دولية وإقليمية، وصعوبة
فرضها، والخطوط الحمر الروسية والإيرانية، إلا أنهم رحّبوا بتولي كل من السعودية وتركيا
تدريب "معارضة خاصة معتدلة"، وذلك يعني أن تركيا ستقوم بتدريب المعارضة المنتمية
إلى "الإخوان المسلمين"، بينما تقوم السعودية بتدريب المعارضة المنتمية إلى
الفكر الوهابي، أو تلك المنتمية إلى الفكر العروبي الذي يرفض الفكر "الإخواني"،
ما يعني حُكماً عودة المجموعات المسلحة العاملة في سورية إلى الخيارات الإلغائية لبعضها
البعض، بسبب تعدّد الولاءات الخارجية.
في النتيجة، ستكون الخطة الأميركية
الحالية للقضاء على "داعش" والنظام السوري غطاء لحرب سُنية - سُنية في منطقة
تتطاحن فيها كل من السعودية وتركيا على سباق النفوذ؛ تركيا تحاول إعادة عقارب الزمن
قرناً إلى الوراء، وتحاول أن تعيد صياغة القرن الحادي والعشرين منتقمة أو مسترجعة ما
خسرته في بدايات القرن العشرين، وباتت تتحدث علناً أنها لن تكتفي بالوقوف متفرجة على
تنصيب السعودية مجدداً راعية لعالم إسلامي سُنّي ممتد على مساحة جغرافية استراتيجية
هائلة.. بينما تعرف السعودية أن الخطر الماثل أمامها أو أي خطأ أو تنازُل أو سوء تقدير
منها يجعلها دولة من التاريخ، وقد يقضي على وجودها كدولة موحَّدة بشكل نهائي.. وهكذا،
سيكون على المنطقة أن تعيش تداعيات صراع سُنّي - سُنّي إلغائي عنفي، سيُغرق المنطقة
في مزيد من العنف والدمار والدماء لمدة طويلة جداً، بحسب ما "بشّرنا" به
الأميركيون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق