د. ليلى نقولا الرحباني
من المفترض أن تحرّك مبادرة العماد ميشال عون الانقاذية، المياه السياسية الراكدة في لبنان وتخلق نوعًا من السجال الصحّي في وطن يتعرض للارهاب ولمحاولة إلغاء تتجلى في محاولة تغيير هويته وطمس دوره ورسالته، لكن الانغماسيون القدامى- كما يصفهم النائب عباس هاشم- بدأوا الحملة السياسية بدون أن يقرأوا ما كُتب، أو لم يفقهوا ما قيل، إما لجهل أو سوء نية أو الاثنين معًا.
إن الطرح الذي طرحه العماد عون - كما العديد من الطروحات السابقة - تسجّل له أنه استبق الأحداث بوقت طويل، وحاول إخراج لبنان من أزمة كبيرة من خلال كسر المراوحة والجمود نحو خيار يكرّس الديمقراطية الحقيقية التي يفترض أن يعيشها لبنان في منطقة ملتهبة بالعنف والتكفير وخيارات الالغاء التكفيرية. وحتى لو لم يفلح الجنرال عون في إقناع الأطراف بمبادرته الانقاذية، فيكفي له شرف المحاولة لتخليص الوطن من مآسِ يستشرفها مبكرًا، شأنه في ذلك شأن الطرح الذي طرحه في 22 تشرين الثاني 2004، حين قام بمبادرة انقاذية، دعا فيها الى مؤتمر وطني للحوار، يمهد لخروج سوري مشرّف من لبنان، يحمي لبنان وسوريا معًا من تداعيات التغييرات الاستراتيجية في المنطقة.
ولعل الأطراف نفسها التي رفضت المبادرة الحوارية آنذاك، هي نفسها التي ترفض اليوم، علمًا أن الأطراف الرافضة تلك دفعت أكثر من غيرها، ثمن الرفض والتعنت والشعور بفائض القوة ومحاولة الاستفادة من التطورات الاقليمية التي لم تأتِ لصالح أي من الأطراف الرافضة.
عام 2004، أدرك العماد عون مبكرًا أن التغييرات في المنطقة ستؤدي الى خروج الجيش السوري من لبنان، وحاول أن ينقذ لبنان الصغير من معركة شرق أوسطية ستطاله وتحاول تسخيره من خلال صراع الكبار على أرضه وبواسطة أبنائه، وهو ما حصل بالفعل، وأدى الى اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وحرب تموز 2006، وأحداث نهر البارد 2007 وهلمّ جرًا.... وكما الأمس كذلك اليوم، تعيش المنطقة ولبنان ارتدادات خطيرة نتيجة الحراك العربي، وما يحصل في سوريا منذ عام 2011، وما حصل في العراق، واعلان "دولة الخلافة الاسلامية" التكفيرية الرافضة لأي تنوع أو تعددية في هذا الشرق.
إن مواجهة ما تحاول "داعش" أن تقوم به، لا يكون بالشجب والاستنكار أو دفن الرؤوس في الرمال، فالواقع يشير الى أن لداعش مؤيدين ومناصرين على امتداد المشرق العربي، وحلم الخلافة لطالما راود الكثير من المسلمين العرب، واعلانه من "داعش" قد يدغدغ مشاعر العديد ممن يجهلون حقيقة داعش، ويعتقدون أن باستطاعة أبو بكر البغدادي أن يعيد أحلام الدولة الاسلامية التي سقطت بسقوط الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الاولى. وفي ظل هذا الخطر التكفيري الداهم، لا يمكن تحييد لبنان عن هذا الصراع الذي سيستعر في المنطقة إلا بإعطاء المسيحيين دورهم الحقيقي والفاعل في النظام، وهو ما يجعلهم يتمسكون بلبنان ويحمونه الى جانب المسلمين من سنّة وشيعة، وفي ذلك خدمة لمسلمي المنطقة ومسيحييها على حد سواء.
إن الظلامية والتكفير التي تهدد المنطقة، وإشعال الصراع الطائفي والمذهبي على الأرض، تحتاج - قبل كل شيء- إسقاط الرسالة والدور الذي يضطلع به لبنان في هذا المشرق، الذي يعيش فيه المسيحيون والمسلمون جنبًا الى جنب بشكل طبيعي، تمامًا كما أن محاولة إنشاء الدولة اليهودية الآحادية القومية والعنصرية، تفترض حكمًا إسقاط النموذج اللبناني القائم على التعددية الدينية والسياسية.
واقعيًا، تعيش المنطقة ولبنان بالتحديد أخطر أيامها على الأطلاق، وما حكي عن تهجير للأقليات وإذكاء نار الفتنة المذهبية بين المسلمين لمئة عام تشبه المئة العام التي تطاحنت فيها اوروبا بسبب الدين، بات أمام أعيننا ونارها تشتعل في بيوتنا، فهل يستفيق اللبنانيون ويكونون قدوة للإطفائي الذي يطفئ لهيب المنطقة أم يصبون الزيت على نار الفتنة الطائفية والمذهبية فيشعلون أنفسهم والمنطقة؟ التاريخ والتجارب اللبنانية، لا تبشر بأجوبة مطمئنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق