د. ليلى نقولا الرحباني
في تحليل لسياسة ما بعد ضم القرم
إلى روسيا، يتحدث الكثير من الباحثين الأميركيين والأوروبيين عن أن ما يظهر أنه
"خسارة للغرب" في معركة أوكرانيا، وضم القرم ليس إلا "وهم" يتوهمه
البعض الذي يريد أن يصدق أن بوتين ضمّ القرم ولم يستطع الغرب أن يحرك ساكناً، بل بالعكس،
إن ما يبدو أنه "انكسار" بسبب عدم استطاعة الرئيس الأميركي فرض عقوبات جدّية
على الروس لعدم وقوف الأوروبيين إلى جانبه في فرض تلك العقوبات، هو انتصار وذكاء حاد
للسياسة الأميركية التي استطاعت أن تكبّد الاقتصاد الروسي خسائر كبرى، بدون عناء، وبدا
بوتين كمن يلف الحبل حول رقبته ويشنق نفسه بدل أن يشنقه الآخرون.
وقد يكون جزء من هذه النظرية
صحيح، فالاقتصاد الروسي بلا شكّ قد تأثر بالعقوبات أو حتى التهويل بها، فالرأسمال معروف
بأنه جبان، يهرب بسرعة من البلدان العديمة الاستقرار أو المرشحة لعدم الاستقرار، ولكن،
هل فعلاً شنق بوتين نفسه، وخسرت روسيا بدل أن تربح في القرم؟
في البداية، يجب العودة إلى
تبدّل معايير القوة وسباق النفوذ الذي طرأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد سارع
الغرب إلى تبديل أسس الصراعات الدولية التي اعتمدت الجيوبوليتيك التقليدي خلال الحرب
الباردة، لصالح المعايير الليبرالية واقتصاد السوق والانفتاح على العولمة، فتمّ التخلي
عن السباق التقلدي نحو التوسع لاحتلال الجغرافيا وزيادة القوة العسكرية ومعايير الأمن
القومي، لصالح الاقتصاد ومعايير الاعتماد المتبادل والنظام العالمي، وبات السعي إلى
الهيمنة يتم عبر الهيمنة الاقتصادية على السوق التي يمكن للغرب أن يتفوق فيها بدل أن
تكون عسكرية جغرافية مكلفة مادياً وبشرياً، وهكذا قلّص الغربيون موازنات الدفاع الوطنية،
وفرضوا سياسة تقشفية على حلف الناتو.
وانطلاقاً مما حصل من تطورات
خلال الأعوام الثلاث الأخيرة، وتأسيساً على الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت نظام
السوق بالصميم، يمكن القول إن ما قام به بوتين في إعادة ضمّ القرم، أعاد الاعتبار إلى
المعايير التقليدية للجيوبوليتيك، والارتكاز إلى القوة العسكرية للهيمنة والتوسع، وهو
ما يجعله رابحاً بمجرد سحب البساط من تحت أرجل الغربيين، وإعادة الاعتبار إلى المعايير
التي تتقنها روسيا جيدًا، بدل أن تكون روسيا لاعباً في مسرح دولي يفرض قواعده الغرب
(الاقتصاد). علماً أن القبول بعودة معايير الجيوبوليتيك التقليدي قد تؤدي إلى دورة
معاكسة لما قام به الغرب مع الاتحاد السوفياتي، حين فرض عليه الأميركيون سباق تسلح
جديد في الثمانينات من القرن الماضي دفعه إلى زيادة الإنفاق على برامج التسلح في وقت
كان اقتصاده يعاني الأمرّين، ما سرّع في انهياره، لذا إن العودة إلى الهيمنة من خلال
التوسع عسكرياً وجغرافياً أمر مقلق للولايات المتحدة التي أعلنت نهاية التدخلات العسكرية
المباشرة، خصوصاً في ظل عدم رغبة داخلية بالتدخل العسكري المباشر وهو ما ظهر جلياً
خلال الأزمة السورية، وبعد حربي العراق وأفغانستان.
وبما أن الاقتصاد هو عصب الحياة،
فقد توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نحو الصين لتوقيع عقود تجارية وتعاون
متبادل ومنها تزويد الصين بالغاز الطبيعي الروسي، وهي خطوة إن تمّت ستعيد تعويم الاقتصاد
الروسي وتسمح للروس بتخطي أي عقوبات أو توجّه أوروبي للتخلي عن الغاز الروسي في المستقبل.
وفي الحالتين، لا يبدو - لغاية
الآن - أن بوتين قد خسر في ضمّ القرم، فالخسائر الاقتصادية القصيرة المدى يمكن تعويضها
بالانفتاح على أسواق جديدة أهم وأكثر وعداً كالاقتصاد الصيني، كما أن الأرباح الاستراتيجية
التي حققها الروس إن على صعيد الإقليم أو على الصعيد الدولي، تستحق أثماناً أعلى بكثير
مما تكبده الاقتصاد الروسي الذي تشير المؤشرات إلى عودته للارتفاع بعد زيارة بوتين
إلى الصين هذا الأسبوع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق