د. ليلى نقولا
على وقع صيحات التكفير الآتية من كل حدب وصوب في العالم العربي، يعيش المسيحيون العرب ومعهم مسيحيو لبنان، القلق على المستقبل الآتي، والخوف من مصير مجهول يتهددهم ويحوّلهم الى مشردين في أصقاع الأرض، كما حصل مع مسيحيي العراق. وهنا تتجه الانظار الى مسيحيي لبنان، لرفع الصوت، باعتبارهم الأكثر قدرة على التعبير والتحرك، بما لهم من حصة وازنة في النظام، وبما للبنان من هامش حريات اعلامية وسياسية ودينية وغيرها.
وقد تكون الهواجس المسيحية مشروعة، إذا ما نظرنا الى الواقعين العراقي والسوري المترديين، والهجرة المنهجية لمسيحيي الشرق المستمرة منذ الاحتلال الأميركي للعراق. لكن لا بد من إدراج ملاحظات أساسية، قد يكون مسيحيو لبنان والشرق بحاجة الى إدراكها، وهي:
أولاً: إن القلق المسيحي من التكفير والذبح والتهجير والاقتلاع، هو قلق يتشارك فيه جميع مواطني الدول العربية، فالمسلم السنّي الذي لا يشاطر التكفيريين آراءهم معرّض للإبادة بنفس الطريقة، كما المسيحي أو الشيعي والعلوي وغيرهم من الطوائف الاسلامية التي تعتبر مرتدّة وكافرة في نظر التكفيريين....لذا، إن القلق مشترك، ويخطئ المسيحي عندما يصوّر نفسه بأنه المستهدف الوحيد، ويخطئ أكثر بحق المواطنين الآخرين من الطوائف الأخرى عندما يشملهم كطوائف أو مذاهب بأكملها بأنها تعمل على تهجيره واضطهاده.
ثانيًا: أثبت التاريخ أن لدى بعض الفئات المسيحية من اللبنانيين أخطاء استراتيجية قاتلة، أدّت الى الزج بهم في مشاريع مدمرة، بدأت بالاتكال على الغرب للحماية، ثم تطورت الى حد الوصول الى التحالف مع اسرائيل وتصويرها "راعية للسلام"، واستمرت بمحاولات الاستقواء بالخارج لفرض موازين قوى داخلية أو تغييرها، وانتهت اخيرًا بالاستعداد للسير بالمشروع الأميركي المعدّ المنطقة، وهي إعادة إرث "العثمانية الجديدة" بتنصيب مجموعة حكام من "الأخوان المسلمين" في سيطرة ساحقة على مساحة العالم العربي، وهو تاريخ لا يجد له في ذاكرة العرب المسلمين ولا المسيحيين الكثير من الإشراق، بل يعيدهم الى ذكريات مشينة من التمييز الطائفي تحت شعارات "أهل الذمّة"، ومن التدخل الأجنبي في شؤون السلطنة بحجة حماية الأقليات الطائفية.
ثالثًا: يعاني المسيحيون اللبنانيون من مشكلة الكيدية والشخصانية، التي تجعل من ربح متحقق لأحدهم، خسارة صافية للآخرين، وهو ما يجعل الموقف المسيحي الجامع متعذرًا. ولعل المثال الأكبر على ذلك، هو الاستحقاقات الحكومية المتتالية، وخاصة الاستحقاق الحكومي الأخير، حيث نجد أكثر من ينتقد اصرار تكتل التغيير والاصلاح على الاحتفاظ بوزارة الطاقة هم المسيحيون أنفسهم.
وقد يكون الموقف الذي يدعو التكتل الى التمسك بوزارة الطاقة، غير مفهوم لدى البعض من المسيحيين، وقد يتراءى للبعض الآخر أنه عائد لتمسّك الجنرال ميشال عون بصهره الوزير جبران باسيل بالذات، بينما مَن يدافع عن خيار التمسك بحقيبة الطاقة، يردّه الى أن المسيحيين - وخاصة التكتل المسيحي الأكبر لديهم- بات بحاجة الى الإمساك بوزارة ذات أهمية مستقبلية استثنائية، كونها ستشرف على النفط المستخرج من الأرض اللبنانية، وهذا النفط الذي سيحقق للبنان استقرارًا ماديًا وأمنيًا.
يخشى المسيحيون اللبنانيون أن يتناقص دورهم في النظام أكثر فأكثر، خاصة بعدما تمّ التنازل عن صلاحيات رئيس الجمهورية في الطائف، وتحويلها الى مجلس الوزراء مجتمعًا بحسب النص، والتي تحولت بفعل الممارسة الى صلاحيات مطلقة بيد رئيس الحكومة وهو ما يعطي السنّة صلاحيات وقدرات هائلة للتأثير في صناعة القرار، ويحفظ المكوّن الشيعي نفسه ونفوذه في النظام اللبناني من خلال امساكه برئاسة المجلس النيابي، ومن خلال السلاح الذي يجعل ميزان القوى العسكري مائلاً لصالحه، ويبقى المسيحي الذي يحتاج الى ملف يمسك به، ويجعل له نفوذًا يستطيع أن يفرض نفسه لاعبًا أساسيًا على الساحة اللبنانية، لا يمكن تخطيه.
بكل الأحوال، وبالرغم من أن المواطنية تبقى الأساس لبناء لبنان- برأيي- يبقى أن المنطقة تشهد صراعًا دمويًا طائفيًا ومذهبيًا قاتلاً، لا يمكن للبنان أن يكون منفصلاً عن القلق الذي يسود الجميع، علمًا أن التطورات أظهرت أنه لا أكثريات في المنطقة، فمن كانوا يعتقدون أنهم أكثرية مطلقة، تبين أن الاختلافات فيما بينهم قد تكون أكبر من اختلافاتهم مع الطوائف والمذاهب الأخرى، وعليه، لا حل في شرق مكون من أقليات إلا التعاون وبناء الثقة بين بعضهم البعض، وإلا تحوّل الخوف الوجودي الى صراع لن يبقي لهذا الشرق سحره، وسيطفئ نوره الذي شعّ على العالم أجمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق